الجوهرة
انفتح الباب عن غرفة شديدة الظلمة، يجلس فيها
على أرض باردة الطفل وحيد الداني عاريا، ودخل عليه الرجل بقامة طويلة لا يُرى منها
وجهه، انبسطت ملامح الطفل وفتح ذراعيه للرجل الذي ظل واقفا مكانه بلا
تجاوب، قال الرجل:
-
يا وحيد، انظر ماذا أحضرت لك!
-
إنها هدية؟!
-
بالفعل، أتعلم ما هي؟
أدخل الرجل يده في جيبه ثم أخرجها وفيها جوهرة
تلمع لمعانا يخطف العيون، حينئذ هلل وحيد وصفق بكلتا يديه وحاول أن
يلتقطها من يد الرجل لكنه أرجعها محذرا:
-
إنها الجوهرة الألف يا وحيد، والجواهر هشة
كما تعلم، حافظ عليها لألا تكسرها!
-
إنها جوهرة لامعة! إنها حقيقية، أول جوهرة
حقيقية.
-
كن حذرا!
-
إنها ستكون أجمل جوهرة في الغرفة، أعني
العالم، لأنها ستكون جوهرتي أنا!
هكذا قال وهو يكاد يطير من
الفرح وعينيه تتفجران فرحا محاولا القيام وأن يمسك الرجل بيده لكن شيئا من ذلك لم
يحدث.
أعطاه الرجل الجوهرة فاحتضنها وحيد الداني
بكلتا يديه وعينيه لا تريان سواها، قال:
-
يا لجمالها، لن أكون وحيدا بعد اليوم!
أغلق الرجل الباب بكل هدوء فعاد ظلام الغرفة
يحاول أن يشمل وحيد، إلا أن الأخير ألصق جبهته بها وصلى الرب ليحفظها له، لكنه بعد
ثوان نسى الرب والغرفة والظلام ولم يعرف سواها، بدأ يحدثها وحيد:
-
إنك حقا جميلة جدا، سأكون أفضل صديق لكِ وأنت
ستكونين أفضل شيء لي!
ثم وضعها الداني على قلبه وأغلق عينيه مبتسما،
لكنه سمع همهمات في الغرفة أخافته فتشبث بالجوهرة، وأخذ يحدق في كل ركن من أركان
الغرفة برعب وقلبه ينبض بقوة، تشبث أكثر فهدأت الهمهمات قليلا، إذ ذاك رفعها أمام
وجهه ممتنا وقال:
-
إنني يمكنني أن أرى العالم من خلالكِ! واااه!
وضع الطفل الجوهرة أمام عينيه ورأى من خلالها الغرفة،
التي في واقع الأمر لم تبدُ أقل ظلمة أو رعبا أو وحشة، إلا أن وحيد حدث ذاته
"إنني حقا ممتن، هكذا سأستطيع أن أرى جيد!".
وظل واضعا إياها على عينيه،
يدير رأسه في كل اتجاه ليعيد اكتشاف الغرفة، العالم من جديد، "العالم هادئ
جدا الآن!"، هكذا فكر وحيد.
بعد قليل وضعها أمام وجهه دون أن يتركها وقال:
-
لنلعب لعبة! أنتِ ستسألينني وأنا أجاوب، لا،
لا أريد لعب الغميضة، لا أريد أن أفقدك لأنني لن أرى وأنتِ لستِ أمام عيني، لا
تغضبي لكنني.. لنلعب!
ماذا؟ أبي وأمي؟ لا.. لا أعرف الحقيقة، لم أعرفهما،
لكنكِ تستطيعين أن تكونيهما من أجلي أليس كذلك؟ أشكركِ بحق!
آه، تقولين إذن، لا أعرف، أنا هنا في تلك الغرفة منذ وقت
لا أعرفه، أنا قلق كثيرا يا جوهرتي، وأرتعب كثيرا في ذلك الظلام، لكنني لست بذلك
الضعف، لكن.. حسنا دعينا ننتهي من اللعب!
لم ترد عليه الجوهرة، ولكنه استمر في الحديث
قليلا بثرثرات غير مفهومة عن كل شيء، أحلامه، أيامه، كوابيسه.
سمع الهمهمات تعلو أكثر والظلام يهيج عليه، رأى
في الظلام من يجري وراءه، إذ ذاك التمعت عيناه رعبا، وأراد لو يخبئ الجوهرة بداخله
حتى لا يأخذوها منه، سمعهم وهم يتحدثون، يكيدون له المكائد، ويكاد يراهم يتحركون
في الظلام في كل مكان، لكن لن يأخذ أحدهم جوهرته، لا!
حاول
الطفل وحيد الداني الوقوف للعدو، لكنه سقط لكونه لا يستطيع الوقوف بثبات
حتى الآن، تألم الطفل، لكنه أبى أن يبكي أمام جوهرته التي شعر أنها لو
رأت ضعفه قد تهجره لأنه لا يستطيع حمايتها.
وهكذا، أمضى الوقت المقبل كله يجلس على الأرض
ضاما الجوهرة لصدره، ومغلقا عينيه ويعض شفتيه، يشعر حوله بكل الظلال والقلق
والوحدة الذين يريدون الفتك به، كان يقاتل كل ما يلاحقه بضمه الجوهرة لصدره، ولكن
ترددت في ذهنه عبارة الرجل:
-
إنها جوهرة، والجواهر هشة كما تعلم.
إذ ذاك غزا الرعب صدره؛ فلو أنه استمر بالضغط
عليها لانكسرت، وإذا انكسرت غلبه الظلام، لذلك أرخى وحيد الداني يده قليلا ليحافظ
عليها.
استمر ذلك لثوان قليلة، ولكن قلقه ازداد من
وقوعها منه على الأرض لإهماله في الإمساك بها، لذلك ثبت عينيه عليها لألا تقع منه،
ولكن الخوف والقلق نهشا روحه نهشًا، رأى في الظلام كل شيء، الظلال التي تتحرك حوله
وتريد قتله، رأى وحشا كبيرا جسده مكون من كلمة الوحدة، وآخر من كلمة القلق، كلهم
حوله، "ها هم عادوا من جديد ليأخذوني! لماذا هم دائما هنا؟!"، وفي أثناء
تفكيره في الأمر، كان من شدة اعتصار الخوف لقلبه، قد أحكم قبضته
على الجوهرة، جوهرته، وحينئذ لكثرة خوفه ضغط عليها حتى ترامت شظاياها في
الهواء مُبعثرة في كل شبر من غرفة لا يعلم الطفل أبعادها.
فغر وحيد فاه، ونظر ليديه المدانتين فيما
فعلتا، انهارت أعصابه وأخذ يبكي في حرقة شديدة، وودّ لو يعتذر عما قام به، كرر
"آسف" فوق الألف مرة دون أن يأخذ باله، وكاد يغرق من دموعه، والخوف
يضربه بالسوط، والغرفة أصبحت أكثر ظلاما ووحشة.
استمرت صدمة الطفل وحيد كثيرا، وظل يجلس يلوم
نفسه عما بدر منه من سوء سلوك، حينئذ رأى الغرفة مضاءة في عينيه وفي كل ركن من
أركانها شظايا جواهر قديمة، وتذكر قول الرجل إنها الجوهرة الألف، تمنى لو أنه لم
يكن يمتلك يدين يؤذي بهما تلك الجوهرة التي رأى من خلالها العالم، وأصر في عزم أن
يجمع شظاياها لكن الظلام عاد من جديد.
حاول الطفل وحيد الداني أن يقف على قدميه أكثر
من مرة، ليبحث عن شظاياها ويجمعها لعل معجزة تصلحها، لكنه شعر أنه لن يستطيع
الوقوف بدون جوهرته تلك، لكنه قام في نهاية الأمر بعد محاولات عديدة من أجل تلك
الجوهرة.
لكنه لم يجد لها أثرا.
في تلك اللحظة انحصر على أشده وانفجر الكون ثم
تمدد وانفجر مرة أخرى من حول وحيد الداني، فتح عينيه وهو في غرفة مظلمة لكنها غير
الغرفة التي كان فيها ويشعر بها أكبر بكثير من تلك الأولى، نظر خلفه ورأى الغرفة
الأولى مضيئة خالية من الحياة تتجمع على الأرض شظايا كل الجواهر السابقة: إحداها حاول
عضها حينما كان جوعانا، وأخرى حاول أن يلعب بها أو معها.. ثم نظر أمامه، وشعر
بحزن شديد يهز روحه من أعماقها، وأراد لو يبحث عن الجوهرة، لكنه، في النهاية، كان
هنا، في تلك الغرفة الجديدة، أخذ قلادة بها جوهرة وارتداها، يشد على يديه ولا أحد سواه يمسكها، واقفا، وحيد الداني.
مينا وجدي غطاس.
Artwork: Adam Koszo.
جميلة جدا، غاية في السلاسة و التشوييق ومليئة بالمعانى.. اتمنى قرائتها كلها
ReplyDeleteأعجبني وصف الغرفة بل الوصف والسرد في القصةبأكملها، عشت في الظلام مع وحيد وأحسست وحدته في كل سطر. رأيت النور يسطع من الجوهرة كإنها تتلألأ أمام عينيه رغم كون ذلك مستحيل في تلك الغرفة الظلماء.
ReplyDeleteرأيت اسقاطًا لا أعلم إن كان مقصودًا؟، لكني رأيت أن الجوهرة هي كل شيء ثمين في حياة الانسان وخاصة لو كانت إمرأة. يفقدها الرجل في الطريق ويحاول مرة أخري ليظل في سلسلة الفقد تلك إلى ما لا نهاية.
قصة رائعة وسرد بليغ أحسنت واستمر