لماذا انتشرت القشطوظة وتراجعت كعكة أمي؟
أتذكر أنني في الثانوية العامة والصيف الذي سبقها، لم
أكن أنتهي من الأكل حتى أجوع مرة أخرى، ولم تكن ثلاجتنا ومحتوياتها منزلية الصنع
تسد الرغبة المستبدة بي في الأكل والأكل والأكل، والحقيقة أن ذلك لم يكن راجعا
لكوني عاشقا للأكل منذ الصغر مثلا، بل كان السبب الرئيسي، بجانب شهوة الجسد
الطبيعية، هو الكم المهول من المقاطع
المصورة التي كنت أشاهدها على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، والتي كانت
تتمحور حول موضوع واحد فقط: الطعام، بالإضافة إلى ذلك فإن الأمر لم يكن يتوقف عند
عرض الطعام، وإنما تخطى ذلك وصولا لما يمكن وصفه بممارسات صنمية (Fetish)، وكأنما
صانع ذلك المحتوى يتغزل في الطبق المعروض ويتعبد جماله وقدرته الفائقة على إدخال
السعادة إلى القلوب، كأن البروزاك لا فائدة له ويكفيك فقط أن تأكل رغيف الشاورمة
من أبي فلان السوري، وأتذكر جيدا أن ذلك الغيث كان أول مطر لم ينتهِ من وقتها وحتى
الآن، بل تزايد وتفاقم حتى تسبب في فيضان من المقاطع التي لا تنتهي بجودات
متباينة، بعضها إحقاقا للحق احترافي ومفيد، وأغلبها لا يتعدى كونه محاولات للثراء
هروبا من البطالة. ما أثار اهتمامي بتلك الظاهرة لم يكن جوعي طيلة الوقت لكون
خوارزميات المنصات تغرقني في ذلك المحتوى، بل زيادة على كل ذلك فإن طبيعة الطعام
المعروض نفسه تجعل النفس تنظر للأكل المنزلي على أنه قليل القدرة على تلبية
احتياجاتهم. وعليه فإن السؤال المطروح هنا هو لماذا انتشر نمط الطعام الهجين، إن
صح الوصف، وتراجعت العديد من الأطعمة البسيطة التي تلبي في الواقع الوظيفة
الحقيقية للطعام؟ وفي أثناء الإجابة على ذلك التساؤل يتم وضع الغريزة والشهوة
الإنسانية دائما في الاعتبار.
الطعام والمجتمع الاستهلاكي
أشار الدكتور جلال أمين،في كتابه
"محنة الدنيا والدين في مصر" إلى أن تحول المجتمع المصري لمجتمع
استهلاكي ساهم بشكل رئيسي وأساسي في حالة الهوس العامة التي أصابت المجتمع،
وتحديدا بالدين وهو موضوع الكتاب، إلا أن الذي يهمنا في ذلك الشأن هو إشارته لأن
ذلك راجع لأن فائض الإنتاج الذي ولّدته الثورة الصناعية فرض على المنتجين ضرورة
إيجاد منافذ لبيع وتصريف تلك المنتجات، وهو ما تم الاستجابة له من خلال تطور هائل
في تقنيات الإعلان والتسويق، والتي تعتمد في أساسها على نظريات متصلة اتصالا وثيقا
بعلم النفس، أي أن الإعلانات مصممة بالشكل الذي يمكنها من استغلال نقاط الضعف
الإنسانية وكذلك الشهوات والهوام من أجل البيع، وفي خضم تلك العملية تحولت
المجتمعات الغربية، ومن ثم مجتمعاتنا، لمجتمعات استهلاكية بالدرجة الأولى.
لا يمكن بحال تجاهل كون الطعام منتجا
قامت على صناعته شركات متعددة الجنسيات، وبالتالي فإن الذي تم تطبيقه على السيارات
والملابس ومساحيق التجميل وكذلك الأفلام الإباحية – والتي سيتم تسليط الضوء على
التشابه فيما بينها وبين إعلانات المطاعم فيما بعد – طُبق أيضا على الطعام، وهكذا
فإن الطعام حتى يُباع بكميات كبيرة لا يكفي فقط أن يكون مفيدا ومشبعا، أي أن
الوظيفة الطبيعية للطعام لم تعد كافية، بل لم تعد مطلوبة. وبالتالي فإن ما حدث
للطعام هو جعله شديد التأثير في نفس المشاهد، بحيث لا يكون الطعام شهيا وحسب بل
يعد تجربة أيضا شيقة يجب أن يمر بها الإنسان حتى لا تفوته.
وبالتالي فإن في مجتمع كذلك الذي أصبحنا
نعيش فيه، فإن نظرتنا للطعام اختلفت بدرجة كبيرة عن ذي قبل؛ فإن القصص الدينية
مثلا تصور شهوة البطن تلك على أنها خطية ويكون المصاب بها الفرد، أما الآن فإن
المجتمع كله أصبح يتجه نحو ما هو فائق وشديد ومثير، وذلك داخل إطار حالة
"الهوس" التي تحدث عنها الدكتور جلال أمين سابقا.
الطعام والإباحية: وجهان لعملة واحدة
قد يكون من الغريب بالنسبة للبعض الربط
بين إعلانات المطاعم والأطباق المقدمة حديثا وبين الأفلام الإباحية للعديد من
الأسباب، مثل أن الطعام أمر طبيعي وأخلاقي فيما تعد الأفلام الإباحية منافية
للأخلاق، ثم إن الأفلام إدمانية بالدرجة الأولى فيما يفترض ألا يكون الطعام كذلك،
بالإضافة للضرر الجسيم على المرء من تلك الأفلام أما الطعام فإن أقصى ضرر هو
السمنة والأمراض المرتبطة به، إذن فما هو الرابط فيما بينهما؟
تقوم الأفلام الإباحية في الأساس على
دعامتين: الجنس كعملية، والمؤثرات الكثيفة، وبالتالي فإن الأفلام تحاول بشكل أساسي
الوصول لأقرب شكل ممكن للهوام الخاصة بالفرد، والتي تكون متطرفة في بعض الأحيان، وبتحقق
تلك الهوام يقع المرء في الشرك، وإن كان ذلك التحقيق زائفا؛ حيث إن مشكلة الإباحية
الجنسية بحسب الفيلسوف سلافوي جيجك هي أن المشاهد لا يستطيع المشاركة. فتكون
النساء والرجال في الأفلام متسمات ومتسمين بشتى الخصائص من طول وعرض، سمنة ونحافة،
وحتى الأدوار التي يحتلونها، فيأتي المشهد مثاليا ومثيرا لدرجة كبيرة، تجعل الجنس
الطبيعي فقيرا بجانب تلك الأفلام.
على الكفة الأخرى، فيوجد ما يسمى
بإباحية الطعام "Food porn"، وهو مصطلح بدأ استخدامه
في الأوساط الأكاديمية منذ سبعينات القرن العشرين ثم انتشر ليدخل في قلب الثقافة
الشعبية مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، يشير لتصوير الطعام بنفس تقنيات الأفلام
الإباحية[1]،
وعليه فإن الأمر هنا لم يعد فقط مرتبطا بالاحتياج الإنساني الطبيعي للأكل أو لكون
الفرد شرها، بل تخطاه لحدود أبعد من ذلك بكثير.
تتقاطع الأفلام الإباحية إذن مع إباحية
الطعام في كونهما يعتمدان على التصوير الفائق للموضوع بشكل يعرضه كأمر شديد
الإثارة، وهو ما ينعكس على كيمياء المخ ويغيرها، وهكذا فإن بدلا من أن تكون المرأة
أو الرجل نجمي الإعلان، يكون سندويتش البرجر هو ذلك النجم من خلال الاقتراب الشديد
من السندويتش وقطع الطماطم تحط عليه والصلصات المختلفة تُضخ فيه فيكون منتفخا
وفخما مما يجعل اللعاب يسيل لا محالة.
وتقوم فكرة الخبرة أو التجربة "Experience" في
مجال الأطعمة، بناءا على كل ما سبق، على خلق هوام لدى المشاهد حول ذلك الطبق
المقدم، وما تنطوي عليه كل لقمة منه من سعادة غامرة، مما يجعلنا نشتهي ذلك الطبق
حتى وإن لم نكن قد تخيلنا رغبتنا فيه من قبل، وفي الحقيقة لطالما كانت تلك
الفانتازيات سببا أساسيا في إحباطي عند تجربتي لأحد المطاعم المعلن عنها نظرا لكون
الطعم مهما كان رائعا فإنه لن يصل للصورة التي رسمتها في عقلي عند مشاهدتي
لإعلاناته. والدليل على أهمية التجربة في تلك الصناعة هو انتشار العديد من نماذج
المطاعم التي تقدم تجارب متطرفة وغريبة، مثل مطعم "Heart Attack
Grill"
في لاس فيجاس حيث يرتدي العملاء ملابس المرضى وإذا لم يتمكنوا من إكمال طاعمهم يتم
ضربهم[2]،
ناهيك عن سلسلة مطاعم "Karen’s Diner" حيث اشتهرت بتوجيه
الإهانات والسباب للزبائن[3]،
وغيره من المطاعم التي تعتمد على الإثارة الجنسية من خلال ارتداء النادلات لملابس
مثيرة، بينما يتم تطبيق ذلك في مجتمعاتنا بشكل أوضح من خلال التجارب المتعلقة بالتميز
الطبقي حيث تقوم بعض المطاعم بالموافقة على دخول المرء إليها بناءً على خلفيته
الاجتماعية فلا يكون التمايز المادي هنا هو الفيصل وإنما الرقي الطبقي هو الذي
يمنحك ذلك الشرف.
يمكننا بالتالي فهم المبدأ الذي تقوم
عليه العديد من الصناعات الغذائية، ألا وهو الإثارة الشديدة، مما يجعل المرء مدمنا
لا محالة، والواقع أن الناس في مجتمعنا لا زالوا غير قادرين على تصور الطعام
كإدمان كما المخدرات والأفلام الجنسية، ذلك أن الأكل في حد ذاته كفعل هو أمر مقبول
بحدود، وبالتالي فإن كنت أفكر كثيرا في الطعام أو آكل كميات كبيرة فإن ذلك سيوقع
علي وصف الرمرام أو أن همي على بطني، لكن ليت الأمر يقف عند ذلك الحد، فإن السمنة
المفرطة التي أصابت ملايين من الناس في كل مكان من العالم من أهم أسبابها اضطراب
في الأكل، الذي يرتبط في جانب منه بميكانيزمات الإدمان، فإذا رجعنا للمعالج النفسي
جابور ماتيه في جملته الشهيرة عن أننا يجب ألا نتساءل لماذا الإدمان بل لماذا
الألم، فهنا يجب ملاحظة كم مرة مثلا نأكل عندما نكون غاضبين أو في حالة حزن،
وبالتالي فإن الأكل وكذلك الأفلام الإباحية مرتبطان في ذلك الأمر، كسلوك يحاول
التنفيس عن الألم أو تسكينه، والحقيقة أن ليست مصادفة كل تلك المقاطع الساخرة من جمل
صناع محتوى الطعام وهم يترنمون بأكثر الأوصاف هوسا بالأطباق المقدمة، من قبيل
"يخرب بيت كبره" وما شابه تلك العبارة وربطتها بنفس الجمل التي يتم
ذكرها في الأفلام الإباحية.
زفة الملوخية: الأمل الأخير لمطاعم المشويات
كما ذُكر عاليه، فإن العديد من الأطعمة
المصنعة والجاهزة تكون بطبيعتها ذات مكسبات طعم شديدة، سواء كانت مالحة أو حلوة،
وذلك يضع العديد من الأطعمة الأخرى، وكذلك صانعيهم في مهب الريح، نظرا لتأثر
المتنافسين في سوق الأطعمة ببعضهم، فإن المنافسة تحتم مهما حدث أن المرء يفوز على
حساب شخص آخر.
وفي خضم تلك المنافسة لمع نجم محلات
البرجر والبيتزا والطعام السوري والآسيوي في بداية تلك الموجة التي اكتسحت مصر منذ
حوالي عشر سنوات، وذلك بالتركيز على دخول العديد من رؤوس الأموال المحلية في السوق
بجانب الشركات العالمية مثل ماكدونالد أو بيتزا هَت، وإذ حققت تلك المطاعم مكاسب
رهيبة شعرت مطاعم المشويات بلا شك بنوع من التهديد، نظرا لكون الأطباق الخاصة بهم
ليست بنفس الإثارة الخاصة بالأطعمة الأخرى الممتلئة بالجبن من الداخل أو الصلصات
المتنوعة.
عطفا على ما تم ذكره في الجزء السابق
حول استخدام نفس آليات التصوير في الأفلام الإباحية عند صناعة إعلان للطعام، فإن
ذلك ما استخدمته مطاعم المشويات بقوة للمنافسة، ناهيك عن إدخال العديد من الأصناف
الجديدة على قوائمها، والتي تتصف بشكل عام بالخلط بين أكثر من وصفة في طبق واحد، ومن
هنا أصبح إحداث الضجة وتصويرها في المقاطع الإعلانية هو الوسيلة الأكبر لتسليط
الضوء على العديد من المحال، فأتت زفة الملوخية كعرض أساسي الآن لا غنى عنه لدى
الكثير من المطاعم، على الرغم من كون الملوخية طبقا بسيطا لا ينطوي على أي مثير
شديد، وبالتالي فإن لم يكن مثيرا بطبيعته فإنه سيتم تصويره ليبدو كذلك، هذا
بالإضافة للتركيز على اللحوم التي تقع من العظم وتدوب في الفم ويضاف إليها العسل.
بذلك الشكل استطاعت العديد من المطاعم،
غير مطاعم المشويات، أن تحيي فرصها في المنافسة من خلال صبغ أطباقها بالطابع
الإباحي من خلال تقنيات التصوير نفسها أكثر من طبيعة الطعام، مما قد يجعل العديد
من الناس يتكبدون مشقة السفر والتكلفة المادية فقط لتجربة زفة الملوخية.
الطعام كحل للأزمات الوجودية
تحدث بيتر كريفت، أستاذ الفلسفة في
جامعة بوسطن، في كتابه " فلسفات الحياة الثلاث"، عن الفراغ الوجودي الذي
ينهش الإنسان، وقدم دراسة لثلاثة أسفار من الكتاب المقدس: سفر الجامعة، والذي قدم
على نحو دقيق عبثية الوجود، وسفر أيوب، الذي صور الألم والمعاناة الإنسانية،
وأخيرا نشيد الأنشاد، متحدثا عن المحبة، وقد برع كريفت في وصف الفراغ الوجودي الذي
نشعر به، مستخدما هنا وصف دانتي أليغييري من ملحمته الخالدة "الكوميديا
الإلهية" اللافتة الموضوعة على باب جهنم تحمل الشعار الآتي:" تخلوا عن
كل رجاء، أيها الداخلون إلى هنا". وقد أشار إلى أن سفر الجامعة مزاجه مزاج
العصر الذي نعيش فيه، من حيث السأم وانتشار الباطل (اللا معنى)، وقد تكون تلك
الأزمات الوجودية التي يتسم بها عصرنا في الواقع سببا وجيها للإدمان نظرا لكونها
تسبب ألما رهيبا في نفس الإنسان إذا ما اصطدم بالفراغ الذي يغلف حياته.
أمام ذلك الوحش المهول قد يحاول المرء
أن يناوره أو يفر هربا خوفا من المواجهة، وذلك ما أشار إليه الفيلسوف إريك فروم في
مقال كتبه عن الامتلاك والاستهلاك، ضمن مقالات مختارة نُشرت فيكتاب بعنونا
"حب الحياة":
"ذلك أن السلوك الاستهلاكي يتأسس
على الرغبة في ابتلاع العالم كله، وبهذا فإن المستهلك هو رضيع أزلي يصيح طلبا في
قارورة الحليب."
السؤال هنا هو لماذا يريد أو يحتاج
المرء أن يبتلع العالم كله؟ أرى أن الفراغ الوجودي أو السأم أو اللا معنى لهم
جميعا علاقة بتلك الرغبة، الرغبة في الشعور بالامتلاء، وبالتالي فإنني أتذكر أنني
كثيرا ما كنت أجهل ما يمكنني القيام به في تلك اللحظة، أي لحظة الفراغ، فأقوم
أشتري شيئا لآكله.
الحقيقة أن ذلك التفسير يبدو منطقيا في
السياق الخاص بالمجتمع الاستهلاكي الذي نعيش فيه، نظرا لضعف قدرتنا للوصول للمعنى
في حياتنا، وذلك في إطار السرعة والأطعمة الجاهزة والمعلومات الغزيرة، دون معرفة
ذات عمق أو أساس يمكن الاستناد إليه عند التعامل مع الحياة، وبالتالي فإنني كنت
كلما شعرت بالألم الوجودي ذاك كنت أحاول أن أملأ الفراغ الذي في صدري بصدور الدجاج المقرمشة وغيرها من الأطعمة، وذلك
هو ما فشلت فيه فشلا زريعا، نظرا لكون الامتلاك لا يغني عن الوجود بأي شكل من
الأشكال كما أشار إريك فروم، والواقع أن الإشارة لكون الناس صاروا أكثر نهما
والتوقف عند تلك النقطة إنما يقدم تفسيرا قاصرا للظاهرة؛ إذ يجب وضع المطبخ في
إطاره الاجتماعي الأوسع لأنه في النهاية نشاط اجتماعي يعبر عن ثقافة ما، وهكذا فهو
متصل لا محالة بكافة الجوانب الأخرى من تلك الثقافة.
الطعام والتنمية الاقتصادية
تتبادر إلى الذهن إذن العديد من الأسئلة
حول موقع صناعة الطعام من التنمية الاقتصادية بمفهومها الشامل، والذي لا يقوم فقط
على زيادة معدلات النمو الخاص بالدولة بل وبتحسين معيشة المواطنين فيها، وحتى الآن
فإن الإجابة على ذلك السؤال تلزمنا الرد على سؤال أشمل، قد طرحه من قبل الدكتور
جلال أمين، حول علاقة المجتمع الاستهلاكي بالتنمية الاقتصادية.
الواضح في ذلك الشق هو أن المطاعم التي
ملأت العالم كله وليس مصر فقط، كثيرا ما يُنظر إليها على أنها توفر فرص عمل للشباب
وبالتالي تحمي من البطالة وتدير عجلة الإنتاج، إلا أن ذلك الحديث ليس كامل الصحة،
نظرا لكون المطاعم تقوم هي نفسها على الاستهلاك بالدرجة الأولى للمواد الخام، وحتى
منتجاتها فهي استهلاكية، أي لا يمكن بناء مجتمع عليها، وعليه فإن فرص التنمية
الاقتصادية هنا تتضاءل كلما زاد الميل لذلك النوع من الأنشطة الاقتصادية.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن تلك الصناعات
تتسبب في هدر العديد من الموارد التي من الممكن استخدامها في إنقاذ وتحسين حياة
الملايين من الفقراء، وذلك من خلال رمي الطعام بكميات رهيبة إذا ما شارفت على
الوصول لتاريخ انتهاء الصلاحية، وذلك بدلا من توزيعها – قبل انتهاء صلاحيتها
بالطبع – على الفقراء، وذلك يحدث في العالم كله وبخاصة الفنادق التي ترمي بواقي
البوفيهات المفتوحة حتى وإن لم تمسسها يد، وعليه فإن فكرة الكفاءة والفعالية في
استخدام الموارد تكاد تكون منعدمة هنا، ناهيك عن كون الأطعمة الجاهزة تتسبب في
العديد من الأمراض التي بدورها تؤثر على صحة العاملين مما يؤثر على عملية الانتاج،
وإن كان ذلك التأثير ضعيف نسبيا مقارنة بتأثير الكحوليات أو المخدرات الذي يكون
أكثر فجاجة.
وعليه، فإنه من الجائز اعتبار قطاع
الأطعمة طريقا لتحقيق الثروة الشخصية، وهذا حقيقي، إلا أن الزعم بأن ذلك يساعد
الدول على زيادة التنمية الاقتصادية، ويخلص المجتمع من مشاكله فيما يخص توفير
مصادر دخل، فهو أمر به الكثير من المغالطات، نظرا لكون الوظائف التي تتيحها الأطعمة،
والصناعات التي حولها من إعلان وتسويق، لا تحتم على العامل أن يكون متعلما بشكل
جيد، فيما عدا مستويات الإدارة العليا، مما يجعله عرضة للبطالة إذا ما ترك العمل،
وحتى وإن لم يتركه فإن فرصة الارتقاء والادخار تكون قليلة نظرا لقلة المرتبات
ولسقف الترقيات الذي ينتظره، ودعونا لا نتجاهل أن التصاميم التي تقوم عليه المطاعم
لا تمت بصلة إلى مبادئ التنمية المستدامة، لا من حيث توفير الطاقة -–كفانا النظر
للافتاتها -–ولا من حيث التقليل من استخدام المواد البلاستيكية، بالإضافة لكوننا
لا نعرف كيف يتم التخلص من نفاياتها، والتي ليست بالضرورة قابلة لإعادة التدوير،
وتلك العملية نفسها حتى وإن تم الوعد بها فإنها لا تتم بشكل سليم.
ماركوس أوريليوس طبيبا للسمنة
إذن فماذا يمكننا فعله أمام تلك
الظاهرة؟ الحقيقة أن الحديث السابق كله لا يعني بشكل مطلق أن تلك المطاعم والأكلات
هي شر مطلق، ولكن إذا ما أردنا حلا يساعد على التعامل مع تلك الظاهرة بشيء من
الاعتدال، فإن التفكيك الذي أشار إليه ماركوس أوريليوس في كتابه
"التأملات" هو طريق مناسب لذلك.
"تذكر إذن، باستثناء الفضيلة
والأفعال الفاضلة، أن تتجه مباشرة إلى الأجزاء المكونة لأي شيء، وفي تشريحك له
ستتخلص من سحره. وعليك أن تطبق المنهج نفسه على الحياة كلها."
يمكننا أن نلتزم بقول ماركوس أوريليوس
هنا، وإن كان صعب تعميمه على الحياة كلها، للتحرر من سحر الدعاية والإعلانات، وذلك
من خلال تشريح مكونات المنتج المعروض والتأمل فيها، بالشكل الذي يجعلنا نتجه إلى
الغاية النهائية أو الفائدة النهائية له، أي أننا سنصل لسؤال محوري ألا وهو
"ما الفائدة؟" وعند ذلك السؤال ستضعف كل المثيرات المحيطة بالطعام، وليس من العيب
الإجابة على ذلك السؤال بالمتعة أو التسلية، لكن على أن يكون ذلك فعلا واعيا.
[1]
Stinne Gunder Strøm Krogager & Jonatan Leer (2024) Food porn 2.0?
Definitions, challenges, and potentials of an elusive concept, Journal of
Aesthetics & Culture, 16:1, 2354552, DOI: 10.1080/20004214.2024.2354552
[2]
Horovitz, Bruce. “Heart Attack Grill Bypasses Nutrition Guidelines,
Political Correctness with ‘To-Die-For’ Operation.” Nation’s
Restaurant News, February 16, 2009. https://www.nrn.com/restaurant-operations/heart-attack-grill-bypasses-nutrition-guidelines-political-correctness-with-to-die-for-operation.
[3] Garfinkle,
Madeline. “Karen’s Diner, an Australian‑Based Chain That ‘Hates Good
Service,’ Is Coming to the U.S. Again.” Entrepreneur,
March 20, 2023. https://www.entrepreneur.com/business-news/karens-diner-offers-a-rude-dining-experiencewith/447945.
Comments
Post a Comment