نافذتي، النافذة التي أحب

 



إلى أمي،

 وأختي، وأبي.

 

  حط الليل على غيط العنب، ولم يكن بالشوارع والأزقة صوت إلا صوت الريح الشتوية، إذ ذاك في إحدى البيوت المجاورة للكنيسة، في الدور الأرضي، السيدة عايدة تجلس بجلبابها الأسود البالي مربعة قدميها على كنبة مهترئة في مواجهة الباب، ولم تكن الشقة سوى غرفة وصالة وحمام ومطبخ، ولانخفاض الشقة بالنسبة لمستوى الرصيف فقد حال ذلك دون ممارسة النافذة الوحيدة المطلة على الشارع في ممارسة عملها، أما نافذتيّ المطبخ والحمام فهما مغلقتان تماما حيث الفجوات في السلك المعدني تعد منفذا سهلا للفئران والحشرات، والسبب في تلك الجلسة منذ أكثر من خمسة عشر عاما هو البياض الذي أصاب عينيها.

  تمسك بمحمول نوكيا وتنتظر الساعة، حيث ضبطه بيتر على أن يقوم بالرنين كل ساعة فتقوم هي بِعدْ الرنات لمعرفة الساعة الحالية، وقد أوشكت الآن الساعة على الواحدة مساءا، وها هو المحمول يرن، لقد حان وصول بيتر من العمل لدى أحد بقالين الشاطبي، وذلك الأمر وحده بدل ملامحها بعدما كانت فاترة إلى رضا مرسوم على الثغر، وباليد الأخرى التقطت بدقة الراديو الموجود على الطاولة ،أخفضت صوته، ثم قامت ووضعته بسلاسة شديدة في مكان آخر بجانب الباب.

  تنتظر السيدة عايدة بفارغ الصبر الحكايات الجديدة وبقايا القديمة والعراك التي سيأتي بها ابنها، والتفاصيل التي ستُغنيها عن كل ما لم تره، مما جعلها ترهف السمع حتى تعرف إذا ما كان قد اقترب من الباب، إلا أن رنين الهاتف قد انتهى وبيتر لم يأتِ بعد.

  تعرف هي أن في تلك الساعة من الليل رغم فضاء الطريق إلا أنه يمكن أن يتأخر قليلا انتظارا لمركوب يوصله، ولكن رغم تلك المعرفة انقبض قلبها أشد انقباض؛ إذ إن بيتر منذ عَمَل تقريبا لم يتأخر عليها ولو لمرة بل كان يفاجئها في بعض المرات ويأتي قبل الوقت.

  مر الوقت طويلا عليها، وبدأت تدير رأسها ناحية الباب تحملق فيه عبثا ثم تقبض على الهاتف، تحدث نفسها قليلا وتطمئن نفسها بأنه قد يكون قد جاع فتوقف في أي مكان ليأكل شيئا، ولكن ضربات قلبها أصبحت تضغط على صدرها.

  حينما مرت دقيقة أخرى من دون وصوله استبد بها قلق جبار جعل هامتها تتعرق، عندئذ أخذت أم بيتر الخطوة وفتحت الهاتف وضغطت على الأزرار التي تأتي لها بجهات الاتصال تماما كما علمها بيتر، الأولى له دائما، ضغطت على زر الاتصال ووضعته على أذنها بلهفة، ولكن أتت السماعة بما لم تشتهِ الأذن وعلمت أن القروش الباقية قد انتهت.

  إذ ذاك شعرت السيدة عايدة بظلام مطلق يطبق على عينيها لأول مرة منذ أول فترة، وصار بأذنيها الدقيقتين صفير نفاها عن الواقع، "أين بيتر؟"، حينما استغرقت في التفكير في الأمر ولم تجد إجابة، شعرت كما لو إن موج بحر يلطمها وأن صورة البيت التي في رأسها صارت تتمدد وتنحصر حتى لبثت لا تعرف أين هي.

  احتلها شعور بالعمى حرفي، قامت من على الأريكة في همة وأرادت أن تذهب لتبحث عنه، وفي حين مضيها للغرفة لتضع أي رداء عليها، تعثرت مع أول خطوة، وتجمدت في مكانها واقفة في مكانها، ارتعبت من ظنها أنها ابتعدت جدا عن الأريكة، وأي خطوة خاطئة ستأخذها وتقع على الأرض فالجبس محتوم.

  ظلت واقفة في مكانها، تدير رأسها في كل اتجاه ممكن، ولا حيلة في يدها، تمنت لو أنه لم يعمل قط حتى وإن ماتا من الجوع؛ على الأقل كانا سيكونان سويا.

 اشتعلت بلبها فكرة ألمعية لتقضي على الظلام الذي من حولها، أخذت السيدة عايدة تتحسس الهواء من حولها بيديها وتتحرك بأنصاف الخطوات لتجد أقرب مفتاح نور يمكنها أن تضيء به الغرفة؛ حتى يعطها النور الأصفر وحرارته نوعا من الوعي بالمكان والونس، ظلت تبحث حتى وصلت وضغطت على المفاتيح كلها وارتسمت على وجهها ابتسامة انتصار عبثية.

  "كم الساعة الآن؟"

  تحدثت بصوت عالٍ مع نفسها، وعبست مرة أخرى، داهمها شعور بالبرود شديد استغربته، وفقدت الإحساس مرة أخرى بالمكان جعلها تتسمر في مكانها، وأرادت بعد مضي لحظات أن تهون على نفسها فبحثت عن الراديو إلا أنها عجزت عن الوصول إليه نهائيا، ثم أحست باختناق رهيب كما لو كانت النافذتان المغلقتين تماما منذ زمن قد أوقفا جريان الهواء الآن، وأرادت فتحهما ولكن ليس في إمكانها.

  انسالت من وجه السيدة عايدة دموع لم تدرك وجودها، واستبد بها حنق رهيب جعلها تتهور في الحركة وتحاول الوصول لأي شيء، ولكن، لولا ستر الله لكان الجبس محتوما حقا، إذ وقعت على ركبتها، قامت مرة أخرى وانتهى بها البحث للوصول للأريكة.

  غلبها اليأس وأخرجت من صدرها سلسلة ذهبية مطبوع عليها صورة زوجها المرحوم، وانفتحت في بكاء عميق شديد ورددت بقوة "سامحني، سامحني".

  بعد لحظات سمعت باب البيت ينفتح وخطوات تقترب من باب الشقة، أخفت السلسلة بسرعة ومسحت وجهها واتخذت وضعيتها المعهودة في الجلوس، وحينما انفتح الباب صاحت:

-        كل هذا تأخير يا ابن الكلب؟! أليس لك بيت؟

-        تأخير ماذا يا أماه؟ الساعة واحدة وخمسة! وبعدين لماذا أطفأتِ نور الشقة كله هكذا؟

  تجمدت للحظة مرتبكة، ثم اصطنعت الغضب منه، وقامت واتجهت بسلاسة ناحية الباب والتقطت الراديو مرة أخرى واتجهت نحو الغرفة وشعرت بالضوء قد أحاطها مرة أخرى وأخذت نفسا عميقا وأخرجته براحة، وأمرت بيتر: تعال يا حيوان واحكِ لي ما حدث اليوم.


مينا وجدي غطاس.

Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟