الغشاوة
نزلت الضربة على
قفا حودة المصري بشكل مفاجئ لم يتوقعه في أول مرة يشرف فيها مجلس صعاليك دفعته،
ويكون المجلس عادة بين الثالثة والرابعة فجرا في آخر شارع النقل والهندسة بسموحة
من ناحية المحمودية، ثم ينفك بعد ساعة ونصف أو اثنتين حتى لا تلاحظهم الأعين المستيقظة،
تنفرد على الأفخاذ البفرة و"الإربع"، وزجاجة مياه مقطوعة العنق حاضرة
على الأسفلت، رفع حودة رأسه فرأى "غرباوي"، يشخر من القهقهة حتى ليكاد
يقع على الأرض، بينما بقية المجلس الموقر ملتزمة بالعمل وترتسم فقط البسمة على
وجهها وهي تراقب كل شيء بسرعة.
-
لا تجرني بالله عليك يا غرباوي، لا أريد أن
أفرد ذراعي في مجلس أنا جديد العهد به.
-
لأ وأنت بروح أمك قتَّال جدا، أراهنك أنك من
أول نفس ستُعمى.
-
أول ماذا؟ الظاهر أنك لا تعرفني نهائيا يا
وجه البقرة أنت، هههخخ، قال لك نفسا!
-
بما أنك عنترة هكذا فإني أراهن.
ثم لم ينطق حودة
بالموافقة إلا أن نادى "سلعااوي، لُف سيجارة"، لم تفت دقيقتين حتى تسلم
حودة سيجارة محشية، لم يكن هناك سبيل لأن يتراجع الآن أو التمهل لأنها أول مرة يجرب
فيها، قرّبها من فمه ووضعها بين شفتيه، ولكن غرباوي لم يترك له فرصة إشعال
السيجارة حتى خطف الوشاح الذي على رقبته، فاستغرب المصري ولم يفهم، إلا أن ذلك يم
يعيق غرباوي من أن يضع الوشاح أمام عيني حودة ويربطه من الخلف.
تساءل حودة:
-
ماذا تعمل؟
-
خائفة أم ماذا حبيبة أبيك؟ التزم بالرهان!
-
نحن لم نتراهن على ذلك!
-
ألم نتراهن يا شباب؟
حل صمت لثوان
والشباب يعلمون القادم من العرض.
-
أترى يا ابن الكاذبة، أومأوا برؤوسهم على صحة
كلامي.
-
أنا لا أرى شيئا يا ابن الكلب أنت!
-
ليست مشكلتي، وبعدين، ألا تثق فيّ؟ إن لم تكن
فقم وامض! لا والله أبدا، إن لم تكن فسنوصلك إلى البيت ونشطفك وننيمك أيضا.
-
لا، لا، أثق..
أحكم غرباوي
الربطة بإحكام، ثم أشعل السيجارة وثبتها على حافة شفتي المصري، وهكذا أصبح المصري
لا يرى شيئا البتة، وبعد مرور ثوانٍ سأل:
-
ها، ماذا بعد يا غرباوي الكلب أنت؟!
-
هاا؟ لا شيء يا زميلي، استمتع وسنرى من سيكسب
الرهان.
صمت حودة مغلوبا
على أمره، وحينما بدأ يأخذ نفسا وراء نفسا، هب غرباوي فجأة وهو يقول:
-
خذ بالك، ستوقع السيجارة وتحرق نفسك، حمار!
خطف السيجارة
المشتعلة بخفة بيمناه ووضع أخرى جديدة غير مشتعلة بيسراه كأنه يثبتها فعلا في فم
حودة.
مرت دقائق ثقيلة
وطويلة جدا على المصري وهو لا يفهم ما حل به، إذ ذاك سأل غرباوي:
-
ألن تزيل هذا الوشاح من على عيني يا ملعون؟
-
أزيل ماذا؟ لا يوجد شيء على وجهك، الظاهر أنك
بلغت الذروة مبكرا.
-
كيف لا يوجد شيء يا معتوه؟ ألا ترى؟!
-
قسمًا بجلالة الله لا يوجد شيء، الله! إنني
أقسم يا حودة، أيوجد مزاح في الدين، يا أخي اتقِ الله!
ارتبك حودة بحق،
والضحكات من حوله تُكتم حتى لا تفسد الحيلة، وحينما بدا حقا الارتباك على وجهه،
وبان أنه قد نسى أمر الوشاح، قال غرباوي:
-
ألا ترى حقا؟
-
نعم.
-
قل لي، كم ترى أمامك من أصابع؟
-
قلت لك لا أرى يا غرباوي!
أصبح كتمان الضحك
أصعب كلما رأوه لا يعلم ما يفعل، وحودة ينظر حوله ولا يفهم لماذا يحدث ذلك، أتكون
السيجارة قد أودت بعينيه؟
-
اسمع يا حودة، نحن نعلم أن ذلك يمكن أن يحدث،
ولكننا لم نتوقع حدوثه معك، العمى في النهاية ابتلاء من ربك، وسنقوم بمساعدتك وكل
ما تشاء.
-
أريد الرجوع للبيت!
-
حسنا، ولكن بما أنك أعمى، هل لك حاجة بتلك
الساعة؟
صمت حودة فكان ذلك
بمثابة إذن لغرباوي بأخذها بكل جرأة.
-
كريم والله يا حودة، سنوقفلك عربة أو يمكن أن
نرجعك بأنفسنا ولكن...
-
ماذا؟!
-
أخشى ألا يكون معنا مالا كافيا لدفع الأجرة
أو ملئ السيارة بالبنزين، أن تعلم أنك تسكن بعيدا عن هنا.
استولى الهلع على
حودة مما أثار في غضبا هزيلا فقال:
-
خذ أي شيء وأرجعني لأم بيتي!
-
تأمرني، اسمع يا سلعاوي، كفانا الليلة بتلك
الكارثة التي وقعت على أخي حودة، اجمع حاجياتنا وهيا بنا، وهات عنك السيجارة يا
حبيبي، غريبة والله، أول مرة أرى واحدا يفقد بصره من نصف سيجارة!
أخذ منه السيجارة
غير المشتعلة التي كانت بين شفتيه برفق بالغ، ثم أقامه هو وصديقه الآخر بكل رفق
وهما يعطيانه نصائح حتى لا يقع، تركا المجلس واتجها به نحو سيارة غرباوي، وعلى
الرصيف سيجارتين، الأولى المشتعلة التي تناثر رمادها من الهواء، والثانية التي
بدلها غرباوي كاملة صحيحة.
بعد نصف ساعة قد
وصلوا به إلى أول شارع منزله، وكان سلعاوي يجلس خلف حودة مباشرة وقد أخرج مطواة من
جيبه بهدوء، وحينما توقفت السيارة قام غرباوي بلطم حودة على وجهه عدة مرات صعقته،
ومن الخلف كان سلعاوي يقطع الوشاح بخفة لم يشعر بها حودة، أمر غرباوي "أغلق
عينيك على أشدهما!"، فامتثل له حودة، إذ ذاك أشار غرباوي لسلعاوي بعينيه،
فقام الأخير بضربه على قفاه بقوة غاشمة بيد وبالأخرى خطف الوشاح المقطوع من على
رأسه، وأمام تلك المفاجأة أمره غرباوي مرة أخرى بتفتيح عينيه، فإذا به يرى مرة
أخرى!
تهللت أسارير حودة
المصري، ونزل من السيارة وحدثهم من نافذتها:
-
الحمد لله بصري رجع! لا أعرف والله كيف أشكرك
يا غرباوي، جميلك هذا فوق رأسي ليوم الدين! ولكن كيف فعلتها؟!
فرد عليه غرباوي
وهو يتحرك ببطء شديد بالسيارة:
- لا شكر على واجب أخي، أنت في عيني، حسنا، السلام عليكم حتى لا نطيل عليك الليلة، بالتأكيد أنت مرهق، ومن المعروف طبيًا يا حودة أن الضرب على القفا يُذهب البصر ويُرجعه.
رسم: مريم أيمن.
مينا وجدي غطاس.
12/12/2000.
رائعة ، التهور و انعدام الثقة بالنفس ، تخرج لنا الإمعة ، حوده كتير و غرباوي أكتر ، بنقابلهم في الحياة
ReplyDeleteشكرا جدا أستاذي، شهادة أعتز بها.
Delete3azama Kal 3ada💪💪
ReplyDeleteMerciii!
Delete