وحيد الداني، الجزء الثاني: بين الهروب والبحث
ضاقت عيناه تدقيقا
في السماء بعدما تجمد وبينه وبين النافذة فردة كعب، العالم به كثير من الفجوات،
الكاتب لم يكمل بناءه بعد، هكذا اعتقد وحيد، أدار نفسه مرة واحدة سريعا نحو الغرفة، لم يسبق له أن
شرب ربعا من قبل، لكن رغم ذلك أمست الغرفة تمتد به وتضيق بسرعة.
..يحاول وحيد
الصراخ ولكن صوتا لا يخرج منه، وفي تلك الآوانة يتجمد العالم كله من حوله ولا يقوى
وحيد على الحركة.
حدث الأمر، خضع
الكون المحيط بوحيد لما سمع، عينا وحيد فقط هما اللتان تتحركان في محاجرهما بحرية،
وتشهدان الأعاجيب والمعجزات، تداعى كل شيء من حوله، الجدران اختفت، قدماه ثابتتان
في أرضية الغرفة التي لم تتغير، في حين أنه شعر بالارتفاع كأن أصبح بينه وبين سقف
العالم أمتارا واقترب جدا من الفجوات، ثم هبط بسرعة وساد السواد فجأة.
رفع جفنيه فتفجر
النور في حدقتيه، وشعر بالحرية تسري في أوردته وبالتحكم بعدما سُلب منه لمدة
دقائق، الهاتف يرن مرة أخرى، ولكنه لم يسمعه بل استولى على عقله الصوت الآتي:
"...يجلس
وحيد بعدما رأى المعجزات في كرسي مكتبه..."
إلا أن شيطان وحيد
سيطر عليه تماما وجعله يجري مسرعا، والعروق تكاد تخرق جلده، اتجه نجو باب الغرفة
ثم أخذ يتحقق من كل شبر في الشقة كأنه مدمن يبحث عن كوكايينه، دخل غرفة أمه بقوة
غاشمة جعلتها تسبه لكنه لم يكن يسمع شيئا، لاحظت بحثه فسألته "بتدور على
إيه؟"، وحينما لم يُجِب بادرت "وإن قمت ووجد لك ما تبحث عنه؟"، ولا
عقل لمن تنادي، خرج الغرفة بل من الشقة كلها والجنون راكبه فأخذ يبحث في دوره
وبقية الأدوار الممكنة عن أي شيء يفهمه ما يحدث، إلا أن بحثه باء بالفشل المطلق.
انطلق خارجا من
العمارة ورغم ابتلاع الزحام له شعر بمسافة ليست بالقليلة بينه وبين الناس جعلته
يشعر بنوع من العزلة، نظر إلى السماء وصوت الكاتب يلاحقه ملاحقةً أبدية، ولكنه
توقف وفمه فُتِح عن أخره دهشة وتعجبا، بين الفجوات الواسعة في السماء انطلقت حمامة
ضخمة يشع من حولها نور أزرق تدخل وتخرج من فتحة تلو الأخرى، وسأل نفسه "لماذا
لا يرى الآخرين ما يراه؟"، إلا أن صوت الكاتب قد عاد مرة أخرى، فعدا حتى خرج
من شارع الليجاتيه وأمسى على الترام، وكلما أراد أن يتخذ طريقا عكس إرادة الكاتب
جعله يتراجع؛ فبينما كان وحيد الداني يهم بالاتجاه نحو الشاطبي حاصره سيل من
السيارات الذي أقفل عليه الطريف في زحمة مُهددة.
سلك مسلكا عكسيا
فجرى والأنظار تجاريه باتجاه منطقتي كليوبترا وسيدي جابر، وفي أثناء ذلك خرج من
الفجوات أنواعا من الحيوانات، بين أسد ضخم يتجول في الفضاء كأنه مملكته، وتنين
زيتي اللون جريح، وأخيرا سلعوة ماكرة تتسرب بين الفتحات، قل صوت الكاتب لكنه ظل
موجودا آتيا من الأفق، وذلك الانخفاض أشعل في وحيد نار الفضول فكأنما تحول جريه من
الهروب للبحث عن مصدر الصوت وهو يجري كالمجنون في الشوارع بينما الناس كأنما قد
اهتدوا لأرشد أمرهم فيجدون كل ما يراه عاديا – ذلك إن كانوا يرون كل ما يراه –
هكذا حدث وحيد نفسه.
أنارت نفسه شرارة
صغيرة جعلته يرغب ولو قليلا في الانسجام مع نص الكاتب، فدخل من الترام إلى شارع
المشير وهو يجري كما هو وصوت الكاتب كالمرشد بالنسبة له، ولكنه وجد نفسه في وسط
الناس يرمقونه بنظرات مستنكرة متعالية؛ فما ذلك الأبله الذي يركض بملابس المنزل في
الشارع، فشعر بوحدة ووحشة واختلاف سلبي عن بقية الناس مما جعل الشرارة تنطفأ، ثم
سرعان ما بدأ يرجع أدراجه مرة أخرى.
اقترب منتصف الليل
قليلا، ومهما كان الأدرينالين ساريا في عروقه إلا أنه لم يستطع الاستمرار في الجري
والعدو، قد وصل الآن إلى المنطقة الشمالية، سب نفسه وقدره ثم أحس بالذنب فجنح
للدخول لمساكن الضباط حيث يمكنه الاختباء قدر الإمكان، قطع الطريق وقد كادت تصدمه
سيارة فيرنا سوداء إلا أن تجمده لا إراديا على بعد سنتميترين منها هو الذي أنقذه،
تلقى السب واللعن بروح رياضية؛ فليس ذلك ما يهمه الآن، وفي محاولته لدخول المساكن كادت تصدمه سيارة
أخرى وعاد صوت الكاتب مرة أخرى يحيط به من كل ناحية.
..في تلك الأثناء
شعر وحيد بالامتنان الفائق والحمد، وأراد إكمال الطريق..
إلا أن جحودا اختياريا هو
ما ملأ قلب وحيد الداني وعزف عن الانصياع لكلام الكاتب، فاتجه أكثر نحو المساكن
يريد التوغل فيها حتى يصبح لا مرئيا، دخلها وفي كل ركن خطيئة تحدث، إما فتى وفتاة،
أو مجموعة فتيان وغرقانة أو سجائر ملفوفة تدور على كل واحد بكل تعاون.
جلس على الرصيف
وحيدا وهو في انتظار الساعات حتى تمر فينتهي ذلك الكابوس الثقيل، وقد شعر بإجهاد
رهيب في عينيه من كثرة ما رأته، مرت ساعة ببطء فساعة أكثر سرعة حتى تناهى لمسمعه
من مناطق بعيدة آذان الفجر، ثم تذكر أمه التي بالتأكيد ستقلق، ثم أن ليس معه
الهاتف حتى يطمأنها، "هو يوم أسود من أوله، لا لا، هي حياة سوداء منذ
البداية"، شأنه شأن المشردين رجع بظهره للوراء حتى استلقى على الأرض غير
مهتما بكم التراب الذي سيمسك في جسده ويهيج صدره الحساس، وأخذ يتردد بين إغلاق
عينيه والتركيز في السماء إلا أنه اهتدى للأخير، وغرق في ظلمة السماء وفجواتها
فتسربت فكرة غريبة على الموقف ألا وهي سارة، شعر أن وجهها يرتسم في داخل الفجوات،
ثم جاء شيطان رجيم خبيث وبصحبته ذكرى أرغمه على مشاهدتها أمامه، ذلك حينما كان مع
والده في الصغر في أثناء لعب الكرة في الشارع ليلا أيضا، وعلى الرغم من تركيزه الشديد
على التصدي للكرة إلا أنه يركز على رد فعل والده نحو أدائه ليتسمد منه ثقته، ثم في
لحظة لمح والده وهو يلمح غامزا للاعب الآخر بأن وحيد لا يجيد اللعب، ثم انهالت
عليه في تلك اللحظة الظنون واقتطع ذلك جزءا كبيرا من ثقته بنفسه أكبر قطعة ورماها
للشياطين الذي بجانبه فافترسوها، حاول في اللحظات التالية – كام يتذكر وحيد وهو
سارح في السماء – أن يلتمس له سبعين عذرا إلا أنه وصل للمائة ولم يجد.
توالى على وحيد في
اللحظة الحالية واللحظات التالية الشياطين كل واحد يدخل ذكرى دفينة ويحييها مرة
أخرى أمام عينيه، أول مرة ضرب في المدرسة، وحينما خيب أمل أهله في صغره في الدرجات
وارتفاع مستواه مرة أخرى، ثم أبعد الشياطين من أمامه وسأل نفسه "إن كان الكاتب
موجودا فعلا، فلماذا اكتشفه الآن، وهل هو الوحيد في ذلك؟"، ولكن خليلا لم
يجد، وإجابة لم يعرف.
تشتت ذهن وحيد ثم
استعاده حين لاحظ السكون التام من حوله، فقرر الاستمرار في المضي قدما للغاية
المجهولة، وفي أثناء اتجاهه للخروج من ظلمة المساكن لنور الطريق الرئيسي المطل على
البحر، لمح شبحا يجري في الظلال بسرعة شديدة كما أشباح الأنيمي، ثم شعر به من خلفه
وجانبه حتى وجد نفسه محاطا بتلك الأشباح
ولكن لا يزال بينه وبينهم مسافة وهم يقتربون منه والشر هو الشيء الوحيد
الواضح وهو يطفح من أعينهم اللامعة.
يتبع..
رسومات: مريم أيمن.
مينا وجدي غطاس.
Comments
Post a Comment