حين بكى الحيِّن
أثناء مضيه في
الجو سمع الحيِّن* أنينا شديدا اهتزت له تفاصيل كيانه، صوت صِبَا تحمل نبراته في
طياتها ضعف الشيوخ، فتوقف في الهواء للحظات ثبتت فيها الذرات لثباته، أرهف السمع
فاشتد الأنين فاشتد اهتزازه أكثر فتوجه بسمعه نحو النافذة التي آتاه منها الصوت،
فحلت على النافذة نسمة باردة وإن كانت الشمس على أشد سطوعها اليوم بعد إمطارة لم
تدم أكثر من عشرين دقيقة، فدخلت تلك النسمة من النافذة وقد حملت معها رائحة الندا
المنتشرة بنسبة قليلة في الهواء مما حرك الستائر برقة شديدة كسارق يتسلل من
النافذة، دخل الحيّن من النافذة وتوقف عندها فرأى ما بالغرفة، إنها غرفة مشفى إذن،
نعم اللون زهري باهت، وفي الأركان توجد باقات عديدة من الزهور فشلت في إضفاء أي
نوع من أنواع البهجة على المكان، على الحائط المواجه للنافذة والمجانب للباب كانت
امرأة في نهاية عقدها الثالث أو في بداية الرابع تقف وقفة رجالية بعض الشيء؛ تقف
بقدم وتستند بأخرى على الحائط وتربع ذراعيها، كانت... كانت ستبدو أجمل لو أنها
خارج هذا المكان فبهوته انطبع على قسماتها ولون جلدها، فصار شعرها البني المتحرر المموج
كأنه كاد أن يشيب كأوراق شجر الخريف، بينما وجهها واضح الملامح سيطر عليه صفار
رهيب يوحي بما تنطوي عليه تلك النفس الواهنة، بل من وجنتيها قد تبرز قليلا العظام
فتشير لقلة تغذيتها.
يتوسط الغرفة سرير
تتصل به أجهزة عدة من جانب الشرفة ومن جانب الباب ينتصب عامود معلق عليه محلول
يتموج في الفضاء كما يحلو له حتى ينغرس في ظهر يد ناعمة خالية من أي شعرة بالغة
تستكين خارج الغطاء، أما تحتها فجسد يكاد يهلك إذا نفخ فيه أحدهم، يبدو نصفه
الأعلى من الغطاء يغط في نوم عميق فوق وسادة وثيرة، وإذا نظرت للرأس فمن الملاحظ
أن الشعر كله قد فر منها حتى الحاجبين هجرا محلهما للفقر المدقع الذي به، شفاه
بيضاء جدا وعينان مغلقتان على أشديهما تأبيان الرجوع للواقع.
ما أن دخل الحيّن* ودخلت معه تلك النسمة الرقيقة أحس الطفل الكامن على السرير برعشة جعلته ينتفض
فهرعت المرأة من غفلتها وجرت نحو الشباك حتى تغلقه وقد تنحى لها جانبا الحيّن خوفا
من أن تصطدم به لكنه سرعان ماعدل عن ظنه لتذكره حقيقته، جرت المرأة بسرعة وقد
أمسكت يد الطفل الخالية من المحلول وصارت تحتك بها بلطف حتى تدفئها دون أن تؤلمها،
لكن تلك المحاولة لم تفلح في مساعدة الطفل على إكمال نومه وقد كانت ملامح وجهه تتكرمش
ألما وأنين صدر عنه جعل ذرات المتفرج تتبعثر في الأرجاء، وانتفضت الأم ثانية
واستلمت جبينه عدة مرات وكلمات غير واضحة تصدر من فمها وهي ترتجف.
اقترب الحيّن أكثر
من السرير ورأى المرأة وهي تجثو على ركبتيها بعدما كانت واقفة وتكاد تبكي كأن ألمه
ألمها، وكان كلما اقترب تألم أكثر لشعوره بألم الطفل، هناك شيء شنيع يسري في جسده
يعتصره من الداخل..
انفتحت عينا الطفل
عن آخرهما وهو يبكي والمرأة تكاد تجن فتقبل يده تارة وتارة ترفع رأسها لمن يقطن
بالأعالي لعله يستجيب، كل ذلك جعل الحيّن ينظر لهما وقد اعتراه الأسى الشديد لما
يراه.
في لحظة من
اللحظات التي كانت تمر كدهر تفجر صوت من حنجرة الطفل ملاء فضاء المكان كله ألما
وشجنا، في تلك اللحظة بالذات فكر الحيّن في الأمر ولكن التردد واجهه وأوقفه، وقد
كانت الأم آنذاك تكاد تصدم رأسها في الحائط عجزا لإيقاف ما يحدث للطفل، ثم سرعان
ما باح صوت الطفل وصار يترجى بصوت رقيق "ماما، ماما!!" ثم يكررها كثيرا
كثيرا فيزداد بؤس الأم لعجزها تلك المرة عن فعل شيء، فذاك ليس بردا إن أحاطته
بذراعيها جلا عنه.
حام الحيّن حول
السرير وكاد يحتضن الطفل كي يخلصه من كل ذلك، وسرعان ما لمح الأم وهي تقوم من
محلها تجري وقد اخترقته نحو الباب وتفتحه ثم تخرج عادية الطرقة لجلب أي مساعدة،
فبقي مع الطفل وحده وقد اشتعلت به مشاعر جعلت النور يتذبذب وأركانه تتشتت من فرط
الألم، ولكنه آثر أن يظل حتى آخر لحظة يمكن للطفل أن يتحمل فيها الألم، سرعان ما
عادت الأم ومعها طبيب وعلى وجهها أمارات الرعب، وقد نظر الطبيب للمحلول وللجهاز وقد حاول أن يبين أنه يتفقد شيئا لكنه في وقع
الأمر لم يكن بيده أي حيلة، في تلك الأثناء كانت الأم وقد انفك الحصار عن
دموعها تربت على يد طفلها وهي تهدهده
"نم يا حبيبي، حبا بالله نم"، ولكن الطبيب نظر إليها كحمار استحالت عليه
الإجابة والحل، وسرعان ما خرج وهو يتمتم بتمنيات الشفاء العاجل وأيضا كان يؤكد أن
الألم سرعان ما سينتهي..
ولكن الألم لا
يتوقف أبدا، بل مع مرور اللحظات والثواني والدقائق يشتد أكثر فأكثر غير مدرك أن
طفلا مثل ذاك لايستطيع تحمله بل إن رجلا شديد القوة لا يتحمله إن انقض عليه، تفجر
صريخ الطفل وانتفض من سريره متألما كأن شيئا من داخله يقوم بتمزيقه إربا، فقام
الحيّن بالاقتراب منه ببطء شديد وحذر، وقد تلبس الغرفة شيء من البرودة كلما اقترب
من الطفل، ثم في لمحة عين لمس موضع قلب الطفل فامتص جسد الطفل برودة الغرفة كلها
واستمر صوت آلة قياس نبض القلب تلك المرة، دون صعود أو نزول.
مع ذلك التوقف
الذي حصل لقلبه توقف وعي الأم للحظات لم تدرك فيها ما حدث وقد برقت عينيها وتجمدت
الدموع على خديها والنفس يخرج من فمها مهتزا وقد أصابتها رعشة وهي تقترب ناظرة
لطفلها، ثم رفعت حاجبيها رويدا رويدا إدراكا للهول الذي وقع في الحين، وسرعان ما
أخذت تتنفس بقوة وقد فلتت من عينيها دمعة وعينيها لازالتا متصلبتين على الطفل،
ولكن ذلك الهدوء لم يصمد أمام إدراك عقلها ما حدث فانهارت باكية وهي تقبله وتناديه
ب"حبيبي" ثم تهزه كأن الموعد للذهاب للمدرسة قد حان مثلما كانت تفعل كل
صباح، إلا أنها ستتوقف الآن، ثم صرخت ولطمت وجهها فأتى هرولة الطبيب ومعه ممرضتان.
تجمد الحيّن في
موقعه وهو يشهد الحدث، إن تخليص أحدهم من العذاب يحيل الآخر له، وكانت كلما صرخت
الأم كلما تشتت تفاصيل كيانه أكثر فقام بالخروج من غرفة المشفى وهو به حاجة ملحة
للبكاء، يمضي في الجو وقد حمَّل السماء برياح باردة شديدة وكان يعوي ويبكي فهطلت
أمطار غزيرة مفاجئة بعدما كان الجو مشمسا..
*الحّين بشد الياء معناه الهلاك أو الموت
مينا وجدي غطاس.
رائعة، تحتاج لقراءات متعددة لاستيعاب عمقها. " إن تخليص أحدهم من العذاب يحيل الآخر له "... جملة عبقرية .
ReplyDelete