لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟
في السنوات
الأخيرة شهدتُ وحدة موحشة أحاطتني كثيرا من كل اتجاه، إلا أن ذلك لم يدفعني للحديث
عنها بشكل واضح شجاع حيث إنني ظننت أنها حالة فردية تخصني، كما لو أنها حالة سرطان
وليست جائحة عالمية، وبالتالي فهي لم تكن تستحق في نظري إلا أن أدوّن عنها بعض
الجمل في مذكرة محمولي أو أن أشير إليها بخجل في حديث مع صديق. لكن ما اختبرته في
الفترة الماضية من أحاديث مع أصدقاء ومعارف وأقارب ومن ملاحظة للمحيطين في أكثر من
مكان، أكد لي أنني لست الوحيد الذي يشعر بالوحدة، وليس في ذلك الخبر ما يثير المرء
نهائيا، لكنني اعتزمت أن أحاول معرفة أسباب ذلك الشعور ومشاركتها على قدر خبرتي،
وعليه فإنني بنيت افتراضي ذلك بأن ابني حتما سيشعر بالوحدة بناءً على فكرة استمرار
الأوضاع الحالية، التي من شأنها التسبب في وحدتنا الحالية.
في أغنيته "Revolving" يقول
مغني الراب الفرنسي "براف-BRAV" الآتي:" هل من
المنطقي رغم أنني محاط بالناس أن أشعر
بأنني وحدي؟ يجب تقريبا القيام ببعض المجهودات للاندماج.. لا نعرف أبدا، فقد أجد
الحب في وسط هذا الاغتصاب الجماعي.."، قول براف ذلك ليس جديدا بل إنه منتشر
جدا على وسائل "التواصل" الاجتماعي، آلاف المقاطع المصورة القصيرة على
إنستجرام تكون عبارة عن كلام عن السكوت أو المضي قدما بشكل وحيد أو عن كيف أن كل
الرجال يستيقظون صباحا ويجلسون على حافة سريرهم صامتين، والشكل الأخير من المقاطع
هو ما استرعى انتباهي؛ فلو أنني أقوم بذلك، وهناك آلاف ممن شاهدوا مقطعا واحدا من
تلك النوعية يقومون بذلك، فماذا ستكون حصيلة آلاف المقاطع من ذلك النوع التي يقوم
بالاعجاب بها آلاف آخرون؟ الحصيلة ستكون ملايين- من مختلف الأعمار بشكل متطرف- ممن
يشعرون بنفس الشعور، وذلك ليس أمرا عاديا كنزلة البرد، وإنما يوجد نمط لذلك من
وجهة نظري.
إن كنتُ أشعر
بالوحدة الآن وعمري 22 سنة، وهناك مراهق يشعر بالوحدة وعمره 17 عاما، ورجل في ستيناته
يشعر بنفس الشعور أيضا، فإن احتمالية أن يشعر ابني بذلك ليست بالقليلة نهائيا، وقد
جاءني تساؤل في تلك النقطة، ألا يمكن أن يكون ذلك راجعا فقط للتربية والنشأة أو
الخصال الشخصية؟ هل لو ربيت ابني على أن يكون من القطيع وأن يماثل أبناء جيله، أي
أنني إذا أطلقته دون غرس مبادئ فيه، فذلك سيضمن له البعد عن الوحدة؟ والحقيقة التي
استقر رأيي عليها هي أن ذلك لن يفرق في شيء إلا في شكل الوحدة، فوحدة إدجار آلان
بو التي عبر عنها في قصيدته "وحيدًا" بقوله:" من ساعة الطفولة لم
أكن كما كان الآخرون، لم أرَ كما يرى الآخرون، لم أستطع أن أجلب مشاعري من ينبوع
مشترك. لم آخذ من نفس المصدر حزني، لم
أستطع أن أوقظ قلبي ليفرح لنفس النغمة؛ وكل ما أحببته، أحببته وحدي.." تختلف
في السياق الخاص بها عن وحدة الذي يسمي نفسه على تويتر Lil Omar، أي أن شكل
القصة مختلف ولكن الموضوع واحد، وذلك ليس اختذالا أو تقليلا من وحدة المختلفين
الحقيقيين، لكن القصد كله هو أن الوحدة تصيب الكل مهما كان وضعه.
لو سلمنا لقصيدة
إدجار ألان بو بشكل مطلق، وقلنا إنه كان مختلفا منذ صغره بشكل كامل عن الآخرين فإن
ذلك سيجعل الأمر منطقيا بعض الشيء، فالاختلاف الجوهري والتميز سيفرض على صاحبه
نوعا من الوحدة والعزلة كما كان الأنبياء والقديسون والفنانون، لكن ماذا يجعل شابا
عصريا لديه 3000 متابع على تويتر مثلا ويعرف طوب الأرض يشعر بالوحدة؟ هذا هو
السؤال الذي يجعلني أبعد بعض الشيء عن فكرة مسؤولية النشأة والخصال الشخصية وحدها
عن الوحدة.
وعليه فإنني سأطرح
ما تيسر لي ملاحظته عن وحدة كلا الشخصين: المميز والتقليدي، وذلك يستلزم إيضاح أمر
ما، ألا وهو أن التقليدي قد يكون مميزا أيضا لكنه تميز غير حقيقي أو تميز الثقافة
السائدة، هذا الشكل في حقيقة الأمر لا يكون تميزا أصيلا وإنما يكون شكلا من أشكال
النشاط الثقافي، ما معنى ذلك؟ حينما كنت في الصف السادس الابتدائي تقريبا شاهدت
أول مقطع تحفيزي في حياتي واستمررت أسمع الخطابات من تلك النوعية حتى تلك اللحظة
التي أكتب فيها تلك الكلمات، إلا أن تناولي لها اختلف من وقت لآخر، لكن ما أريد أن
أسلط عليه الضوء هنا هو كوني اشتركت مع مئات من الملايين على مستوى العالم في
سماعي خطابا يدفعني لأن أكون مختلفا، ناجحا، وحشا، وأصيلا، وهكذا صرت أؤمن
والملايين الآخرون بأنني مختلف ويجب علي أن أكون صاحب حلم ينير الطريق ويغير حياتي
كليا، ولكن المشكلة الحقيقية هنا هي أنني بقيت عدة سنوات دون أن يكون لي هدف محدد،
ولكنني كنت مدفوعا دفعا لذلك الطريق، وبالتالي فإن التميز هنا مثلا ليس بحكم
الطبيعة الخاصة بي كفرد وإنما كان كأنما يستجيب المتلقي لنشرة الإعلانات، فكلنا
الآن نريد أن نكون أصيلين ومميزين، وهذا حسن جدا، إلا أننا نشدو تحقيق ذلك بنفس
الشكل، فهل هذا يعتبر تميز حقا؟ إلا أن ذلك لا يعني انتهاء التميز الحقيقي، لكن
شكله يكون أكثر طبيعية حيث يكون آتيا من
داخل الفرد أكثر، ونجده بشكل واضح عند أولئك الذين لا يرضخون للسائد، أي الذين
يستجيبون لطبيعتهم الداخلية ويسلكون طرقا غير تلك التي اتفق عليها الجمع حتى وإن
كان ذلك في مجال الثقافة نفسه.
إذا ما أردنا أن نأخذ
مثالا على فكرة تنميط التميز فإنه يكفينا بحثا أن نتوقف عند أغاني فليكس وأبو
الأنوار ومروان موسى؛ حيث إنها تدور في فلك واحد مهما اختلف الأسلوب، وبالتالي فإن
الذين في سني مثلا يدورون في نفس السياق الخاص بالتميز.
استكمالا لذلك فإن
أردت أن أشير للوحدة الموجودة في تلك الفئة من الناس فسوف تتعلق بالإمكانات، ما
معنى ذلك؟ في أثناء سعينا المستمر للاندماج مع ذلك "الاغتصاب الجماعي"
الذي أشار له "براف" أو مع النمط السائد حتى نشعر بالانتماء، تتفاوت
بشكل أو بآخر قدراتنا على الالتزام بالنص الموضوع في الجماعة، فمثلا لو أخذنا
الشكل المنتشر للروعة السائد بين الشباب فسوف نجده مكلف جدا جسديا وماديا وكذلك
معنويا، حيث الذهاب للجيم والالتزام بالنظام الغذائي والحصول على حذاء بالنسياجا
وحضور حفلات المغنيين، كل ذلك يلزمه مال كثير، ثم إن الحديث والتفاعل الاجتماعي
نفسه يكون له شكل معين من تعليقات ونشر منشورات معينة والتعرض لأخرى ومشاركة كل
تفاصيل الحياة، ليس لنا كلنا نفس الطاقة على ذلك نهائيا، وبالتالي فإنني يمكنني أن
أسقط من تلك الحسابات إذا لم ألتزم بالسائد، وذلك سيكون في نفس الوقت الذي أحاول
فيه أن أكون متميزا، وبالتالي فإنني أجمع بين أمرين ألا وهما أنني غريب عن نفسي
بإلزامها بالمنتشر وأنني لن أكون قادرا على التناغم بشكل كبير مع ما حولي،
وبالتالي فإن الكثيرين يقعون ضحية للشعور بالوحدة في أثناء هذا السباق.
ولكن ماذا بخصوص
المميزين حقا؟ الإجابة غاية في البساطة، وهي أن الشخص الذي يقف خارج غرفة تعج
بالوحيدين لن يفرق عنهم شيئا إلا في قسوة الشعور بكونه خارج الغرفة وعدم إدراكه
لما يدور داخلها، فكثيرا ما نظرت أنا وغيري إلى جماعات نتمنى الدخول فيها أو بمعنى
أصح ننظر لأشخاص تتجسد فيهم المواصفات التي نظن أنها مرغوبة اجتماعيا بشكل جزئي،
وبالتالي فإن الشخص خارج الغرفة سيظن أن الذين بداخلها ينعمون بالدفء وهو لا، هذا
بالإضافة إلى العنف الذي يُقابل به الشخص الأصيل حقا.
لو أتينا مثلا
بالإنسان الذي ينادي به المفكر والمحلل النفسي إريك فروم، فإن ذلك الإنسان سيذوق
المرّ في وقتنا هذا، لماذا؟ لأن، على سبيل المثال، المرء في هذا النموذج لا يقوم
بالاستهلاك بشكل سلبي كما هو شائع وإنما هو يسد حاجاته الحقيقية، والفكرة هنا أنه
لا يقوم بذلك فقط بل إنه يخرج عن المألوف حيث يقوم على القوة الذاتية له، وبالتالي
فإننا يمكننا أن نستنتج أنه بدلا من أن يكون إنسانا عمليا واستهلاكيا وملولا كما
هو الإنسان المعاصر فإنه سوف يكون متأملا، متمردا، وهذا يعني الألم حتما.
إذن فإنني لو وجدت
المرأة التي يمكنني أن أكمل حياتي معها، ولم أكن عقيما جنسيا، فإن ابني سيشعر
بالوحدة لسبب مثل ذلك مهما كان متماشيا مع الموجة أو مختلفا عنها.
وبالحديث عن فكرة
السائد والأنماط وإريك فروم، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تعمل بكل قوتها من وجهة
نظري على تدجين عقولنا وقولبتها؛ ففروم مثلا أشار إلى أن الإنسان لم يعد يماثل
الصورة بالواقع، بل العكس، أي أنه – بحسب فروم- ينظر للشخص في الواقع ويطابقه مع
الصورة التي يحملها له، وبالتالي فإن أردنا مقاربة هذه الفكرة لعصرنا، فإن أقرب
مثال اختبرته بنفسي في الشهور القليلة الأخيرة هو تنميط الصداقات، بمعنى أن
الصداقة تقوم على شيئين، أولهما الجوهر: أي المبادئ التي يتكون منها
"قلب" الصداقة، وثانيهما هو البيان أو التجلي، فمثلا باعتباري مسيحيا
فإن إيماني هذا يقوم على مبادئ معينة، وحتى يتم اعتقادي ويصبح كاملا فإن هناك
أفعالا معينة يجب علي ممارستها تتفق مع الأسرار المسيحية أو مع أركان الإسلام
مثلا، نفس الشيء يمكن تطبيقه على الصداقة، إلا أن ما يحدث الآن هو أمر خطير ومدمر
للصداقة؛ فالمرء اليوم لا قيم لديه تخص الصداقة، وإنما تقوم الصداقات بشكل مماثل
لما ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي فإنها تكون فارغة لا أساس لها
وسطحية.
فيما يخص الصداقة
فإنني أجدها أهم سلاح ضد الوحدة؛ حيث إنها مرتبة عظيمة من الحب الأخوي النقي،
وبالتالي فإن انهارت الصداقة انهار جزء كبير جدا من إنسانيتنا، وفي الصداقة أعتبر
أن "الشكل المثالي"، كما يسميه فيبر، للصداقة يتجلى بشكل واضح في ثلاثة
الهوبيت وملك الخواتم، وبالذات الأخير حيث إن الصداقة التي تقوم بين فرودو وسام
فريدة من نوعها وتجمع كل ما للصداقة من خصال، فمثلا فرودو هو البطل المعلن إلا أن
البعض يعتبر سام هو البطل الحقيقي لأنه أولا لم يخضع لإغراء الخاتم وإنما ظل يحافظ
على فرودو الذي تغير بفعل الشر الفظيع القابع في الخاتم، علاوة على ذلك فسام ظل
دائما حريصا على مصلحة فرودو أكثر من مصلحته الخاصة، يمكنني أن أعدد القيم التي
تقوم عليها تلك الصداقة العظيمة بين القزمين: الوفاء والإيثار والشجاعة والمحبة،
وما إلى آخره، وتتجلى أهمية الصداقة أيضا في الأديان فالمسيحية مثلا تشجع المرء
على أن يسير مع خليله المسافة المطلوبة كلها، بل ويزيد عليها المثل.
إن الخطر الذي يحاصر
الصداقة في وقتنا هذا يتمثل في رأيي مصدرين رئيسين: التجويف والاستهلاكية
العلاقاتية، التجويف يمكن شرحه بشكل بسيط من خلال قول إن الصداقة الآن يتم تفريغها
من كل قيمها الثقيلة التي تتطلب مجهودا عظيما للبذل، فإن التسطيح الذي يحدث لنا
كلنا بشكل عام في الحياة سيؤثر على الصداقة، فمثلا، المقاطع القصيرة الموجودة على
إنستجرام أو يوتيوب أو تيكتوك تعطينا جرعات كثيفة من الدوبامين مما يؤثر على
الأمور التي نكون شغوفين بها حقا، وبالتالي فإننا نريد دوبامين سريع التحضير في كل
شيء. أما بالنسبة للاستهلاك العلاقاتي، فإنه قد يكون نتاج المصدر الأول، أي أنه
أننا نستهلك العلاقات دون معنى كما نرتدي الأكسسوارات، فلو أتينا بفرد لا قيم
حقيقية لديه عن الصداقة، فهو سيقوم بتكوين الصداقات مع أي فرد ينتمي للنمط السائد
الذي ينتمي له، بمعنى أن المرء لو لم يكن له مستوى معين للأشخاص الذي يقبل دخولهم
حياته، فإنه سيدخل أي شخص، فمثلا قالت لي إحدى الشخصيات الاجتماعية جدا في محيطي
"إننا أصبحنا صديقين لأننا خفيفا الظل"، هل هذا معيار حقيقي للصداقة؟
المرء الذي يكونا جوعانا طوال الوقت ويأكل المقبلات سيشعر بالشبع لكنه لن يتغذى
أبدا، وسوء التغذية في العلاقات يسبب قطعا وحدة موحشة، التي تؤدي بنا في الآخر إلى
الدخول في دائرة مفرغة من العلاقات غير الحقيقية والخاطئة حتى نملأ الفراغ الذي
يعذبنا:"كل الأخطاء جاءت من الوحدة." كما قال مهاب ناجي في ديوانه
"مدينة لا تليق بموتي".
وعليه فإن ذلك
الوضع من تسطيح وتنميط واستهلاك لو استمر فهو لن يستقر، أي أنه سيستمر في التزايد
مما يزيد الأمر سوءا، وعليه فإن الأجيال الآتية ستعاني أكثر من معاناتنا.
قرأتُ اقتباسا
لإريك فروك، من كتابه فن الوجود يقول فيه:"إن الإنسان المعاصر هو إنسان
جماهيري، وهو اجتماعي بجدارة، لكنه في الوقت نفسه وحيد للغاية." وأجد أن قول
فروم ذلك يرتبط ويتماشى بشكل جيد جدا مع ما ذكرته سلفا، والبرهان على ذلك هو الحجة
التالية: لو قلنا إن المرء تسيطر عليه بشكل كبير وسائل التواصل الاجتماعي، وإنه
أيضا نتاج لما يتعرض له بطبيعة الحال، حيث إن المعروض أمامه دائما يعرض أنماطا
وأشكالا تبدو مثالية، ولو قلنا أيضا إن المرء يعرض نفسه ويسوّق لها دائما في وقتنا
الحاضر، فإن المرء سيكون بمثابة شخصية عامة في محيطه أكثر من كونه شخص ينتمي لذلك
الوسط، بمعنى أن المرء الآن يمكنه أن يكون آلاف الصداقات على الإنترنت، ويحصل على
مئات آلاف المتابعين دون أن يكون ناشطا في مجل محدد أو نجم حقيقي، أي أن الشخص
الآن لا يتعامل مع معارف وأصدقاء فقط من دائرته المحيطة، بل إنه من الممكن أن يصير
نجما أيضا، وهذا اختبرته بقوة منذ نعومة أظافري لأن المعروضات كلها على التلفاز
كانت موجهة بشكل أو بآخر نحو هذا الاتجاه لأن أغلبها كان غربي الصناعة، من أول
أفلام "High School Musical" وحتى الرسومات المتحركة
على MBC3
كان يوجد دائما مثالا للروعة يعجب به الآخرون، وذلك النموذج لم يكن دائما غربي
الشكل إذ تم تمصيره وصار نموذجا "فاجرا" إذا صح التعبير، وبالتالي فإن
الصورة الموجودة أمامنا منذ الصغر هي صورة علمنا كيف نحوذ إعجاب الآخرين بطريقة أو
بأخرى وكيف نكون قاعدة شعبية، ثم بعد وقت ما نصير غير قادرين على العيش دون تلك
الأضواء، وأظن أن هذا يماشى مع ما قاله شارلز بوكوفسكي في قصيدته "عبقرية
الحشود-The genius of the crowd” حيث قال:" احذر أولئك
الذين يسعون دائما للحشود لأنهم لاشيء وحدهم"، وهذا نجده في المجتمعات
المدرسية والجامعية على حد سواء بشكل قوي وفج وهذا أمر عشته في وقت من الأوقات،
إلا أن ذلك لا يعني نهائيا أننا بعدنا عن شر الوحدة؛ فكم من فنان انتحر مثلا وهو
يشعر بالوحدة بيد أنه كان نجما؟
نتاج كل تلك
العوامل السابقة هو آخر سبب للوحدة الشديدة، إذ إن المرء في وقتنا هذا ليس منفصلا
عن واقعه وعن نفسه فقط، بل إنه يرفض ويخاف التواصل الحقيقي العميق، والمثال على
ذلك أولا هو ما ذكرته أعلاه عن كون المرء حين يأخذ جرعات مكثفة صغيرة من الدوبامين
فإن الشغف الحقيقي له ينطفئ، وهذا سبب كون الكثير منا يصف نفسه بذلك الوصف،
وبالتالي فإن المرء يحيط نفسه بالناس من كل جانب مرتديا قناعا ما يليق بالمحيط
الخاص به ويجعله مقبولا، ورويدا رويدا يتوحد مع ذلك القناع، فأنا أعرف واحدا مثلا
معروف بأنه رائق وهو يعرف نفسه بأنه رائق أيضا ويعيش حياته على ذلك الحال،
وبالتالي فإن أي شيء يزحزح المرء عن عرشه المتوهَّم فإنه سيكون غير مقبول،
فالتواصل العميق يوجب على المرء أن يخلع قناعه ويظهر بذاته الحقيقية التي يخشى أن
يراها الآخرون، ناهيك عن التجارب المؤذية التي تجعل الواحد منا يرفض الحديث
والانفتاح على الآخر ليحمي ذاته، أضف على ذلك أن أي شكل للصداقة غير النموذج
المعروض علينا الذي يُقبل ويوصف بأنه مثالي يكون مرفوضا، وكما قلنا إن الشكل
المهيمن أمامنا هو شكل سطحي بعض الشيء، وبالتالي فإن أعمق تساؤل أو حوار يمكن خوضه
في تلك الصداقات قد خيض في الأفلام أو المسلسلات أو على الإنترنت.
أمام تلك السطحية
نرجع مرة أخرى لفكرة الاستهلاك والنجومية، إننا لا يجب فقط أن نكون أصدقاءا في
الحياة الواقعية بل علينا أن نظهر ذلك على الملأ في مواقع التواصل الاجتماعي، ولأن
المرء في العصر الحالي الاستهلاكي والمادي أيضا يكون اتجاهه انتاجيا ويسير ناحية
التألق "Glow Up"،
وإضافة لذلك أن المرء لا يتحمل صداقة مثل تلك التي قامت بين فرودو وسام، فإننا
نشهد عصرا تكون فيه الروابط بين الأصدقاء هشة، وبالتالي فإن المواقف الحقيقية من
أزمات مثلا تكسر تلك الروابط، وبالتالي فإن ما يلي ذلك هو كون المرء يحاول أن يبين
كم أنه أفضل حالا، وكيف أنه استطاع أن يكون أصدقاءا آخرين ببراعة، وبالتأكيد هؤلاء
أفضل ممن سبقوهم، ثم تنهال علينا أفكار على شاكلة "عام جديد، شخص جديد، دروس
جديدة"، ثم يقع البائس في نفس الأخطاء مرة أخرى، ليس لأنه غبي فقط لكن لأنه
حقيقة لم يتعلم شيئا بالفعل وإنما هذا ما يجب أن تبدو عليه الأوضاع، وعلاوة على
ذلك فإن الطابع المادي للعصر، الذي يسيطر عليه مفهوم السوق، يجعل من كل شيء قابل
للوضع في محكمة الربح والخسارة، وبالتالي فإن "خسارتي خسارة وخسارتك
مكسب" كما نرى على وسائل التواصل.
أخيرا، أرى أن
الإنسان المعاصر صار كأنما يولد وهو غريب، وتلك الغربة ليست غربة روحانية كما كتب
البابا شنودة قصيدته الشهيرة "غريبا عشت في الدنيا، نزيلا مثلا أبائي"،
وإنما بسبب التدجين الذي ذكرته سابقا والتنميط نصير غرباءا عن أهلنا في المقام
الأول ثم عن الأماكن أو المجتمعات التي تلي الأهل، فالعمل الذي لا معنى له مثلا
سيشعر المرء بالغربة عنه مثل خدمة العملاء والأعمال التي تدار عن طريق الحاسب
الآلي، وكذلك أماكن الدراسة، فكم من مرة مثلا سألتُ نفسي وسألتَ نفسك "ماذا
أفعل هنا؟" بشكل سينمائي كأنك تجلس في المكان وفي نفس الوقت خارجه، أن يكون
المرء غريبا كل الأماكن التي يحل عليها، وينتمي إذا استطاع لأماكن لا يكون فيها
إلا قناعه في نهاية الأمر، فإن ذلك سيعني لا محالة الوحدة، إلا أن ذلك ليس غلطة
الشاب المعاصر لأنه مدفوع نحو الكسب والربح دون توقف؛ لأنه ببساطة لن يستطع العيش
نهائيا ما لم يعمل.
في النهاية، وأمام
كل تلك العوامل، التي هي غير شخصية في المقام الأول، لو افترضنا أن الوحدة هي نوع
من أنواع الفطريات، فإن المجتمع المعاصر لهو أفضل تربة ينمو فيها ذلك الفطر، أمام
التسطيح والتنميط وأصالة الMain stream والطابع المادي لكل شيء بما
فيه العلاقات، فإنني أجزم بأن ابني سيشعر بالوحدة بلا شك إذا استمرت تلك الأوضاع،
التي أتمنى أن تتغير حتى لا يصير أبناؤنا نسخا منا تحاول أن تصبح نجوما في فضاءات
غير حقيقية بالمرة.
الإسكندرية
2023/3/3.
مينا وجدي غطاس.
اللوحة لإدوارد هوبر.
Inspiring GDNN , KEEP GOING ON ❤️❤️❤️❤️❤️❤️
ReplyDelete