بيجو بيجو




  قرر بيجو، صباح اليوم قبل ذهابه للدرس، أن ينتحر. إذ ذاك دخل المطبخ مبكرا فيما كانت والدته بغرفة أخرى وأخرج بهدوء سكينا، تأملها، ثم وضعها على ساعده وأغمض عينه ليفتحها على عالم آخر، ولكنه انتظر قليلاً وكرر انتظاره ذلك وفتح عينه ووجد أنه لا يوجد أحد بالمطبخ سواه، ولم يأتِ أحد، حينها وضع السكين مكانه بكل هدوء وتسلل لخارجه، اصطدم بيجو في الطرقة بعد تسلله ذلك بأمِه، التي ارتعبت وهبّت فيه منزِلة يديها الاثنين على ظهره ضربا من أثر المفاجئة.

  بعد أن فرغ من السباب المنهال عليه دخل الحمام، وأدرك أنه ليس من اللائق نهائيا أن يقدم على عمل كذلك دون البوح بسره ذلك لأحد، وفكر واقفا أمام المرآة:" إن اختفائي المفاجئ سيكون بالتأكيد أمرًا مؤلمًا للكل، أو.. على الأقل لبابا وماما، لا يصح أبدًا!"، إذ ذاك خرج من الحمام وارتدى ملابسه قبل الميعاد وجلس إلى جانب أبيه وأمه.

  أطال النظر بوجهيهما يستطلع أي رد فعل لجلوسه برفقتهما، ولكن أنظارهما كانت موجهة نحو المذيع الذي يبث عليهما الأخبار، مما جعله ينادي والده:

-        يا حاج، أريد أن أسألك أمرًا.

-        هات ما عندك، أريد متابعة الأخبار.

-        وددت أن أعرف يعني، ماذا سيكون رد فعلك، أعني رد فعلك وأمي إذا ما صحوتما في يوم ولم تجداني؟

-        لماذا يا أخي إن شاء الله؟ البيه ناوٍ أن يترك البيت أم ماذا؟

-        لا، ولكن افترض أنني مُت مثلا.

-        لا يا حبيبي ليس الآن وحياة أمك، انتهِ أولا من دراستك وبعد النتيجة افعل ما شئت، إن شاء الله حتى لو أردت أن تذهب للمريخ! والآن لا تلاعبني في الصباح هكذا بالله عليك، لديك درس يجب أن تذهب إليه فلا تضيع وقتا!

  أطرق بوجي صامتا بابتسامة خجولة واستمر في ذلك لبعض الوقت، لكنه بعد ثوانِ عديدة قام من مكانه حينما وجد أن أحدا منهما لم ينظر له، وخرج.

  في المشروع، جلس بيجو بجانب كهل تبدو عليه علامات الأيام، وتساءل بيجو "هل يمكن أن يفتح هذا الرجل عيني على أمرٍ لم أكن واعيا له إذا ما تحدثت إليه"، سرعان ما سرح بيجو في المحال التي تمر أمامه بابتسامة حالمة وتخيل عدة سينارويهات للأمر، وبذلك استجمع قواه وفتح كلامه مع الرجل:

-        أعذرني يا حاج، لكن هل تسمح لي أن أحدثك بأمرٍ ما؟

-        أؤمر يا بني.

-        لو ضاقت الدنيا بأحدهم، واشتد عليه وحدته، واتصاله بكل المحيطين به منقطع منذ وقت طويل، ولم يبقَ له من الأمل شيء، و... أراد أن ينهي حياته، فماذا تقول له؟

-        وماله سلبي هكذا ولا مؤاخذة، نحن نعيش كل يوم تحت وطأة القرش وتقلباته ولا نفتح أفواهنا، وبعدين حراام يا أخي، سيكون كافرا هكذا ومصيره هلاك!

-        ولكن إن أحس بألا مكان له في تلك الدنيا؟

-        سيضيع على نفسه دنيا وآخرة!

-        صح! أنا قلت له هكذا قسما بالله يا حاج، لكن صديقي ذلك قال لي إنه وصل إلى قاع لا قاع بعده، وصحته النفسية في انحدار شديد.

-        بالله عليك قل له إن الحياة لا يزال فيها الكثير والكثير، وعليه أن يعتزل علوقيته تلك وأن يصبح صلبا ليواجه الدنيا، قال لك نفسية يا نفسية!

تقبل بيجو الإهانة هازا رأسه كأنما سيوصل الرسالة حقا، ظل طوال الطريق مكبوسا في نفسه ولم ينطق بكلمة بعد ذلك.

دخل الدرس، انتظر أستاذ سعيد سعيد، الذي ما أن جاء حتى أمر الكل بإخراج كراساتهم وأنهم سيقومون بكتابة موضوع تعبير مفاجئ في الحال ليمتحن قدراتهم اللغوية، وأعلن أن المتميزين سيكون لهم جائزة خاصة.

انتعش بيجو ورأى لنفسه الفرصة "لعل أستاذ سعيد يلاحظ!"، كتب وكتب بكل ما يملك من كلمات موضوعا عن الاكتئاب والوحدة ووضع فيها كل مشاعره التي أرهقته، سلمها مزهوا وجلس أثناء الحصة كلها النتيجة، جاءت المساعدة وأعطت للمدرس أفضل المواضيع، كادت عينا بيجو تخرجان من محجريهما من فرط الحماس، الموضوع الأول ثم الثاني والثالث، "أين موضوعي؟"، هكذا تساءل بينه وبين نفسه، وتقوقع في ذاته محبطا.

بعد الدرس عزم بيجو بكل إصرار على إنهاء حياته، استقل مشروعا راجعا إلى البيت، لكنه في منتصف الطريق فضل النزول والمشي على الكورنيش، تقدم واتجه ناحية الصخور ثم نزل تدريجيا حتى يصل إلى أقرب نقطة للماء دون أن يبتل، وقف، تأمل السماء والبحر رافعا رأسه، "هي اللحظة!"، هكذا فكر بيجو، تأهب للقفز بعدما لم يرَ أحدا قريبا منه يعيقه أو يشهد فعله، لكن لوهلة لم يستطع القفز، تخشب جسده كله رافضا ترك الحياة، توقف العالم للحظة حول بيجو، لكن لا الشمس نزلت على وجهه بعض انقشاع الغيوم، ولا جاءته فتاة تربت على كتفيه، تلفت بيجو حوله مرة أخرى، "لا يوجد أحد حقا!"، لن يكون هنا منشور على وسائط التواصل به صورته من بعيد وجملة ما أو أغنية، تبدد خيال بيجو.

رن هاتفه المحمول والمتصل أبوه:

-        يا بيجو لقد تأخرت والأكل سيبرد وأنا في غاية جوعي!

رجع بيجو إلى المنزل مطأطئ الرأس، أكل، ثم انتظر حتى يأتي الليل حتى يتم الأمر.

دخل المطبخ، رفع السكين وكرر ما فعله صباحا، وتكرر معه ما حدث صباحا، يشد بيجو على السكين ثم ينتظر، ثم يشد مرة أخرى وهلم جرا، لم يظهر أحد، إذ ذاك سب ذاته وحظه الخراء، رمى السكين على الأرض وتوجه إلى سريره باكيا، وأفخذ يفكر مليا في الأمر "بالتأكيد خلدوا إلى سابع نومة الآن، وهذا لن يرضي ربنا أن أرحل دون علم أحد! في الغد بإذن الله سأُتم الأمر نهائيا."

انتهت في 11/8.

مينا وجدي غطاس.


Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟