بين إخفاق التواصل، و جود ويل هانتنج، وأشياء أخرى...

  في الفترة الماضية انكشفت لي عدة أمور، وتلك جعلتني أدرك ارتباط العديد من الأشياء سويا بشكل كان غريبا عليّ بعض الشيء، إذ كنت أعيش حياتي فيما قبل على أسس ظننتها منفصلة أو متباعدة، ولعل من أهم ما اكتشفته – وحثني على الحديث عنه – هو سبب الشعور الطاحن للذين من جيلي والجيل الأكبر بعض الشيء بالذنب والقلق بل والاتجاه إلى أنماط مادية من الشخصية تتيح لهم التعامل بشكل يحميهم من العالم. 

  في كتابه، إخفاق التواصل-Lost connections، تحدث يوهان هاري عن الأسباب الحقيقية للقلق والاكتئاب حول العالم، وفي كل حديث استحضر أمثلة حية بيننا من الواقع، من أشد ما جذبني من القصص هي قصة طبيب تغذية مع مرضى السمنة المفرطة، ويدور الأمر حول طرح الطبيب لسؤال (لماذا؟) في عمله معهم: لماذا وصلوا لتلك المرحلة من السمنة؟ على أساس أن الإجابة قد تساعده في معرفة السبب وراء انتكاسهم المتكرر، وبالتالي أقام الطبيب بحثا أجرى فيه العديد من المقابلات معهم بوجود أطباء نفسية. 

  على صعيد آخر، يعرض فيلم Good Will Hunting قصة شاب يشتغل كعامل نظافة في جامعة هارفارد، لديه من العبقرية والقدرات الذهنية ما يجعله قادرا على البرهنة والحل لأصعب الأسئلة والمعاضل الحسابية، حيث يقوم بحلها سرا في الجامعة على الحائط، ثم يأتي وقت يكتشف فيه بروفيسور جيرالد أمره، ويحاول أخذه على الطريق الذي يضعه في المكانة المفترضة أن يكون فيها، وعليه، فإن البروفيسور يحاول إخضاعه للعلاج والجلسات النفسية لإصلاح ما يعتل بنفسه، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة اتجه نحو صديق قديم له وهو شان ماجواير، إذ تبدأ بين المعالج وويل قصة صداقة تفتح للشاب أبواب الحياة. 

  تتأرجح الأحداث ولكن يظل ويل هانتنج محافظا على سلوكه أغلب مدة الفيلم، حيث يكون هو العبقري، والصعلوك، والعنيف، وشاب لا يمكن بيان مواطن ضعفه، إلا حينما أتت لحظة فارقة انهار فيها كل ذلك، عرض عليه ماجواير التقرير الخاص به، وما تعرض له في صباه من تعديات جسدية وأذى وتشويه، لكن كل ذلك لم يكن له نفس المفعول الذي أثارته جملة شان ماجواير حينما قال له "هذا ليس خطأك" It’s not your fault. 

  رجوعا إلى كتاب إخفاق التواصل، فإن ما توصّل له البحث أدى إلى ذهول ودهشة كبيرين؛ لأن النتائج أظهرت أن المرضى كانوا يستخدمون تلك الحيلة – السمنة – كوسيلة حماية، مثلا قالت إحدى المرضى إنها تم التحرش بها في سن الحادية عشر، وحينما شئلت متى بدأ وزنها في الزيادة كان الرد بأنه في نفس السن، امرأة أخرى قالت إنها حينما تكون سمينة فهذا سيحميها من زملائها في العمل إذ لن يرغب فيها أحد بهذا الشكل، وهلم جرا. 

  أثناء نقاش محتدم بين شان ماجواير وصديقه القديم بروفيسور جيرالد حول مستقبله، قال له الآتي: "إنه يبعد الآخرين عنه قبلما يحصلون على الفرصة لتركه، وهكذا أصبح وحيدا لمدة عشرين عاما." على الرغم من كون ويل هانتنج لديه ثلاثة أصدقاء لا يفارقونه إلا أنه كان وحيدا في واقع الأمر، والأهم من ذلك في الحقيقة هو كيف أن هذا الغاشم البذيء الذي يبعد كل الناس عنه انهار باكيا أمام جملة واحدة، وهي "هذا ليس خطأك" التي ذكرتها قبلاً. 

  كتب يوهان هاري في إخفاق التواصل جملة غاية في الأهمية غيرت وحدها العديد من الأشياء بداخلي:"عندما تمر في طفولتك بتجربة صادمة جدا فإنك، وبشكل دائم تقريبا، تفكر بأنك المذنب." وفي مقطع آخر:" عندما تكون طفلا أو ولدا يافعا، لا تملك القدرة على تغيير محيطك. لا يمكنك المغادرة، ولا يمكنك منع الشخص الذي يؤذيك من الاستمرار في الأذية. فتجد نفسك أمام خيارين. الأول: يمكنك أن تقتنع داخلك بأنك شديد الضعف، وهذا يعني أنك قد تتعرض في أي لحظة للأذى الشديد، وأنه ببساطة ليس لديك قدرة للدفاع عن نفسك. والثاني: يمكنك أن تقول لنفسك إنك أنت المذنب. 

  إن اتخذت الخيار الثاني، فإنك وفي ذهنك الشخصي على الأقل، تنسب إلى نفسك بعض نواحي القوة. عندما تتحمل أنت الذنب، قد يكون هناك شيء يمكنك فعله لكي تغير الواقع." 

  وهذا مربط الفرس في الحقيقة، فإن هانتنج في نهاية الأمر حينما أتيح له الاختيار بين أن يصبح أحد أساطير الحساب، وبين اللاحق بحبيبته، اختار الثانية بعدما كان قد قال لها إنه يكرهها، وبالتالي فإنه بالتحرر بعض الشيء مما تعرض له بإخباره أن ذلك لم يكن خطأه، استطاع أن يفعل ما يريده بالفعل. 

  الواقع حافل بالأمثلة المشابهة لمثال ويل هانتنج، فمثلا إن اتجهنا لكرة القدم فخير مثال هو زلاتان إبراهيموفيتش، حيث يُعد واحد من أقسى وأكثر اللاعبين غرورا، والسلوك الخاص بزلاتان بعيدا عما يُنسب إليه من صفات الروعة وقوة الشخصية، فإنه في نهاية الأمر وقح في العديد من المرات، وليس هذا الطبيعي، لأنه لن يستيقظ صباحا ليقصف جبهة زوجته مثلا، وهذا كان أمرا جليا في اللقاء مع محرر كتابه (أنا زلاتان إبراهيموفيتش)، ديفيد لاجركرانتز، حيث تحدث عن نشأته الصارمة والاضطهاد الذي تعرض له من زملائه، وبالتالي فإنه دفاعا عن ذاته اضطر للظهور بهذا الشكل، دليل آخر إن غيرنا وجهتنا إلى المهرجانات، فمهرجان عصام صاصا مثلا (قلبنا نسيناه) خير دليل، "قربت أكون أنا رد سجون أصل الناس بترازيني" أو "كنت جدع شفت البدع وعشان طيب بتخان، فقلت أكون جاحد مجنون وجدع زي زمان" أو مثلا حينما قال" واتقلب الحال مشيت شمال وبقيت كائن مخيف، نفسي يا دنيا ترجعي بي لمه كان قلبي نضيف"، وانتقالا إلى عالم المسلسلات والأبطال الخارقين، فإننا لا نستطيع مثلا ألا نتحدث عن Moon knight، وما حدث لبطله مارك (ستيفن جرانت)، حيث إنه ابتكر شخصية أخرى مثالية وهي ستيفن لكي يستطيع التعايش مع ما كانت تقوم به أمه مثلا. 

  الفكرة الأساسية من الحديث ليست قول إن الناس يكونون لطفاء وعداء ثم ينقلبون بسبب الدنيا، لا؛ الأوغاد أبناء الشمطاوات موجودون، ولكننا إن نظرنا في سلوكنا نفسه سنجد أننا في كثير من الأحيان نتصرف بشكل منطلق مما قلناه. 

  الأكثر قسوة ليس تحول المرء إلى شخص مغرور، أو عنيف، لكن العكس تماما، ذُكرت قصة في كتاب إخفاق التواصل عن ترتيب المقامات في جماعات قرود الرباح، وما يثير حقا في تلك القصة هو سلوك القرد الأضعف، حيث إنه لا يبتعد فقط عن الصورة، بل إنه يقبل المهانة والضرب من القرود الآخرين على أساس أن ذلك يمكنه من الإفلات من قبضتهم لأنه مستسلم، وفكرة الإفلات تلك يقوم بها الذين يتظاهرون بالقوة والغرور، والسلوك القاسي، والفظاظة، وهذا أمر واقع، حيث يفكر "آه لو رأوا ضعفي سيدهسوني" مثلا، ولكن هناك من يكون غاية في اللطف، هذا يحتاج إلى حديث، لأنه ما رأيته وشهدته في حياتي مؤخرا، حتى في ذاتي، إذ كنت في حقيقة الأمر أكون غاية في اللطف كنوع من الحماية وليس لأنني حقا أريد ذلك من داخلي، وفي الواقع يكون ذلك كمثل القرد الخاضع، فهو يقول في ذاته إنني مستسلم فارتكوني، وأحيانا يكون الشخص غاية في اللطف كأنه يقول: إنني غاية في اللطف معكم فلا تجرحوني. 

  انطلق يوهان هاري في كتابه يبرهن أن الاكتئاب والقلق ليسا فقط، بل إنهما ردتا فعل منطقية لما يجابهنا من ظروف، وبالتالي نستطيع القول بأن تحول شخصية المرء إلى غاية في الغرور أو غاية في اللطف ليس بالضرورة لأنهم هكذا حقا، وإنما لما تعرضوا له عموما ومما يخافونه. 

  على نطاق أوسع فإن فكرة الشعور بالذنب تعتبر أيضا مهربا مماثلا بعض الشيء لما ذكرناه سلفا، كيف؟ لو قلنا إن موظفا في شركة ما، يقبض ما يكفيه للعيش، ثم مرة واحدة ترتفع الأسعار، وحوله من الضغوط المجتمعية المادية ما يعذبه، فإنه سيشعر حتما بالذنب، لماذا؟ 

  في كتابه، قلق السعي إلى المكانة، يوضح الفيلسوف آلان دو بوتون أن الفشل أو الفقر أو تبوؤ مكانة اجتماعية عالية في العصر الحالي لا يقتصر فقط في الحكم على المال، وإنما يصبح الحكم أخلاقيا أيضا، كيف؟ في عصر تملأه مصادر التعلم، ويبدو كل شيء ممكنا، والإنسان غير محدود، وأحاديث التحفيز، فإنك لو لم تستطع أن تبني الملايين، فإنك وبلا شك مقصر في أمر ما، لأنك مقيد دائما بالإنتاجية، وفي عجلة لا يدور فيها إلا المال، لا يمكن لك أن تدخل فيها نواياك الطيبة أو أخلاقك السامية. 

  توضيحا للأمر، وأخذا بمثال الفيلم، رؤية البروفيسور جيرالد نحو ويل هانتنج كانت محدودة ومقصورة فقط على كونه يساعده على تحويله إلى العبقري الذي يجب أن يكونه، لماذا؟ لأن هذا النموذج الذي يؤمن أن عليه اتباعه، ولكن نقطة الخلاف بينه وبين شان ماجواير هي أن الأخير لم يحصر ويل في تلك الدائرة الصغيرة وإنما أراده أن ينطلق مما يكبله من خوف ليعرف ما يريد حقا، وهكذا فإننا لو أردنا مثلا تعميم الأمر، فإنك في نظر شخص لا يقدر إلا المال، أو المظاهر، أو المكانة الاجتماعية فقط، فأي شيء فيك لن يكون ذا قيمة في اعتباره عدا تلك الأمور، والمرء حاليا لا يُنظر له إلا لكونه وحدة إنتاج مستهلكة، أي أنه ما ينتجه، وما يستهلكه، فتعلو مكانة المرء كلما كسب المال وأنفقه على مظاهر البذخ والترف، وبالتالي فإن أي نموذج معاكس لذلك يكون دائما مهددا بالتهميش أو العار، إذن كما قام ويل هانتنج بإبعاد الكل عنه لأنه خائف من أن يبتعدوا هم عنه، أو سلوك إبراهيموفيتش الناتج عن بيئته إلى حد ما، فإن المرء مننا قد يعيش حياته كلها خائفا من أن تضربه القرود فيخضع للنظام والنموذج المرسوم من قِبل المجتمع المعاصر، ثم يرتدي قناعا يجعله يدخل تلك الدائرة. 

  وتلك الفكرة بأنك إن لم تكن على مستوى معين سيُنظر لك على أنك فاشل، على الرغم أن الظروف في الحقيقة تتغير بشكل مأساوي، ستجعل المرء لا محالة يشعر بالذنب، كمثل الطفل الذي شعر بالذنب في صغره ليشعر ببعض القوة، نشعر نحن أيضا –الشباب والبالغين – بالذنب حتى لا نرى حجمنا الضئيل في مواجهة الحياة، لنشعر ببعض القوة، فنقول "يا ليتني قد أخذت الكورس الفلاني لعلني برعت فيه، أو ليتني تعلمت اللغة العلانية لتفتح لي أفاق عمل جديدة" حتى وإن لم يكن الكورس من طموحك أصلا أو كنت تحب اللغة من الأساس، جرب مثلا أن تقول لعائلتك وسط تجمعها إنك تحلم أن تصبح مزارعا تسكن الريف وسط حقلك ورعيتك فقط، ورِ ما سيكون رد فعلهم، إننا نعيش في مجتمع يُدخل علينا أهدافا ليست أهدافنا النابعة من جوهرنا، الكل يريد اللامبورغيني، وإذا قال أحدهم إنه لا يريدها سيكون مجنونا، فإنها لامبورغيني يا أحمق! 

  في خطاب للمثل بينيدكت كامبرباتش قال جملة لطيفة: تعلم أن تقول للعالم "تبا لك" مرة كل فترة. 

  الحقيقة أن تلك ال(تبا لك) التي أتحدث عنها هنا ليست تلك الفانتازيّة الغربية التي يقولها المرء لكل من حوله بشكل ملئ بالعبط ويمشي عاري الصدر في الشوارع بصورة بطيئة، وإنما تلك التي تتيح للمرء أن يخلع عنه القناع الذي يظن أنه يحميه ليعطي لنفسه المكان الذي تستحقه، وأن يعلم أن الذنب ليس ذنبه دائما بل إن هناك خلل في العالم، وأن ضعفه ليس عيبا، والأهم من كل ذلك، هو أن الصورة النموذجية التي يرسمها المجتمع ليست إلا مجرد صورة، يمكنها بكل بساطة أن تتمزق إربا وتُبنى صورة جديدة مختلفة كليا، فلو أردنا مثالا حيا، فإنني مثلا طيلة الأعوام الأخيرة كنت أشعر بالقلق الاجتماعي الشديد جدا، بشكل كان يؤذيني أذى لا يتصور، وظننت أن العيب في وأنني أنا القلوق، لكن حينما علمت بأن القلق لا يكون في كل الأحوال داء وإنما حيلة دفاعية، وحينما علمت أن المجتمع الذي كنت أهابه بصورة لا يمكن تصورها ليس هو النموذجي، أن الأشخاص ليسوا ما يبدون عليه من الخارج، حينها قل القلق حتى وإن لم يختفِ، تغيرت نظرتي لبعض الأمور وهذا جعلني أكثر رفقا بذاتي، وآمل أن تكون أكثر رفقا بذاتك أيضا، وتغير ما تستطيعه من التغيير.

مينا وجدي غطاس

Comments

  1. جميل ❤️❤️

    ReplyDelete
  2. جميلة❤️❤️❤️

    ReplyDelete
  3. Nice one broo👌🏼

    ReplyDelete
  4. عظيم بجد ، فخور بيك جدا ❤️❤️❤️❤️

    ReplyDelete
  5. ♥️♥️♥️♥️♥️بطل جمدان بقى

    ReplyDelete
  6. Bravoo 👏🏻👏🏻♥️

    ReplyDelete
  7. تغيرت نظرتي للامور و هذا جعلني اكثر رفقا بذاتي

    ReplyDelete
  8. عظيم يا مينا

    ReplyDelete
  9. Gamdaaaa ❤️❤️❤️❤️❤️

    ReplyDelete
  10. 3azama ya sadiki ❤️❤️

    ReplyDelete
  11. جميل جدا، مقال فيه ربط لعدة شخصيات قد لا يجمعها الكثير للوهلة الأولى بسمة مشتركة، فمن كان يعلم أن زلاتان وويل هانتنج وعصام صاصا قد يجتمعون كلهم على معضلة واحدة، بعد قرائتي لهذا المقال تمنيت لو أنهم اجتمعوا في حديث عن مشاكلهم النفسية بوجود شان ماجواير أو يوهان هاري مستمعا لقصصهم.

    ReplyDelete
  12. موضوع الكتاب غاية في الأهمية إن لم يكن واحدًا من أهم المواضيع المتعلقة بالطفولة والتربية؛ وبالتالي اختيار الكتاب اختيارا ممتازا، تلخيص أكثر من رائع لا يدعو للرتابة، تناسق وترتيب منظم، بالنهاية استمتعت واستفدت وهذه أقصى غاية تصل القراءة بينا إليها. تقييمى هو 8.5/10.

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟