رسالة وحيد الداني الأخيرة
لا أعلم في حقيقة الأمر كيف أبدأ حديثي، وإن كنت أعرف جيدا كيف سأنهيه، كأنما تريد قول أشياء كثيرة تحتل صدرك وتجثم عليه ولكنها مع أول دفعة نحو العلنية تنحشر كلها مرة واحدة فتشعر أنك لا تعلم شيئا عن نفسك، ولكنني أعرف أمرا وهو أن الذي أنا فيه الآن متكرر بل إن أي شيء غيره هو غير الاعتيادي، فإنني يا أخ -واعذرني إذ لم أقل أخي؛ ولكنني أعلم أنك لست كذلك- بعيد كل البعد، عن كل شيء، وخاصة عن كوني إنسانا، ولست أقصد هنا الكينونة الجسمانية وإنما الاجتماعية والنفسية، وقد تكون تلك أول مرة التي أتحدث فيها عن ذلك الشعور لغير نفسي، أنا بغير لف أو دوران منفصل تماما وغير منتمي لأي قطيع من البشر، أو هذا ما يخيل إليّ، وهذا أيضا ينقلني لشفافيتي، وليست الشفافية بمعنى الحق والوضوح وإنما بهتان الوجود.
إن الوجود الاجتماعي بالنسبة لي يسبب ألما كبيرا ويكون بمثابة تحدٍ خطير، فكلما انغرزت في تربة أو خُيِّل إليّ ذلك وأحاول أن أتجذر بها كما شأن بقية البشر، أجدني وقد انتُشلت منها شر انتشال، ومثلما دخلت مثلما خرجت وكأني لم أكن وهذا أمر صعب حينما تفكر به، والأصعب حينما تفكر بأمر ليس لك، ويصبح مدمرا حينما يأتي في عقلك النسيان، وأنا محاط به بل منغمس فيه من رأسي إلى أطراف قدمي وعشت معه منذ وُلدت، والحقيقة أن البشر ليسوا أوغادا، وإن كانوا فأنا واحد منهم، ولكن الأمر فيّ أنا، كما لو كانت لعنة سُحِرت بها، فذاك الشعور بالغربة لا ينفك يحل عني حتى يهبط علي مرة أخرى، وذلك الإحساس لا يخبّره ولا يفهمه إلا من عاشه، ولعل المشكلة تكمن في نشأة غير سوية أدت لذلك الشعور ولكن أليس للمرء الذي خلق فيه ربُه الإرادة أن يحاول؟
هاك إنني حاولت بالملاطفة، والتجاهل، والغلظة، والسخرية، والهدوء، والتعفف، والانحطاط، والطيش، والحكمة، ولم ترسُ سفينتي على أي شط، أرى أولئك الذين تربوا سويا ينضجون سويا، والذين ألقت بهم الأقدار في منتصف الطريق فلم يفترقوا، والذي ارتحل من مكان لمكان حتى استقر، والذي داعب الخمر فقبلته، والذي طرق أبواب الرب فاكتفى، وبين كل ذلك لا أجد لنفسي وصفة، وفي النهاية أسألك ما الحل؟
والحق الحق أقول لك إن المرء ليس ضحية ولكنه قد وقع في أفكاره، وهذا هو الشرك، ومهما كان الأمر الذي يشغل نفسه به، فإنه لا يلبث يشعر بالغربة.
والغربة في ذاتها من خلال تحليل شخصي لها، أمر عجيب به تضاد غريب إذ ضرورية حتى يقوم وحيد ويتبع الصوت، وهي جحيم حينما تشتعل داخل وحيد.
أما الآن فوحيد لا يعلم أمرا، إذ إنه سئم حقا حقا من الفرار والتنقل، فالذين رذلوه البارحة تجمعوا الليلة سويا، والذين رذلهم هو بنوا بينهم وبين الآخرين أربطة لا تنفك، والذين لم يأخذ باله ويكترث لهم تجنبوه أيضا، ولكن أين أذهب من كل ذلك؟
والمشكلة أن وحيد في واقع الأمر الملموس المادي ليس وحيدا، بل يحيط به كرسي وطاولة وأربعة حوائط وآل وصحب، ولكن الغربة لم تكن يوما أمرا ماديا بل العكس تماما، وهناك نقرة أيضا في الطريق نحو الانتماء هي الرد، فأكثر ما يخاف منه وحيد هو الثقل الذي قد يسببه إذا دخل في غرفة لا تتسع له أو لا يتسع هو لها.
ولعمري أنني حاولت جاهدا أن أقاوم ذلك الشعور فليس للرضوخ في عقلي مكان، ولكن نظرة من أحدهم، أو حكم مسبق أو أو، تجعل الانخراط يكاد يكون مستحيلا.
أعلم أن حديثي غير مرتب وقد يكون غير مفهوم، ولكنني أنا نفسي لا أفهم، لا أعرف الميكانيزم الذي تتحرك به العلاقات الاجتماعية، لماذا يختلف تأثير الإفيه حينما يخرج من شخص عن شخص آخر، أو لماذا يجتمع الثلج والنار سويا بينما أمر أنا النسمة عليهما ولا يحدث توافق؟ ذلك يستعصي علي إدراكه، ولا أفهم أيضا أيكون وعيي لمفهوم الغربة والانتماء صحيحا أم لا، وهذا أرجحه في أحيان ليست بالقليلة يمكن في محاولة أن أبدد ذلك الشرك النفسي، وإن كان أو لم يكن فلماذا يطارد وحيد؟
يعذبني التفكير في كل تلك الأشياء معا، ثم تذكر أن الأسوأ موجود، فهناك بشر آخر اهتماماتهم أن يكونوا منتمين، بل يبحثون عن كسرة الخبز في القمامة، وعن السلام وعن الصحة والستر وعن المنازل، وأموات يتمنون ربع الحياة التي ينعم بها هؤلاء، ويتجاذبني أمران: أنني أريد لأحدٍ أن يعرف ما يحوم داخلي لعل ذلك يحل شيئا، والآخر أنني أشعر بحواري مع الآخر أنني أنفتح على الآخرين بما يهدد جزءا غامضا من كينونتي يريد أن يبقى خفيا وتحليلي لنفسي لم يبلغ بعد النضج الكافي لأفهم ذلك، وها أنا يا أخت أشعر بأنني عارٍ أمامهم كلهم ولكن ليت المجازفة تكون على قدر من النجاح الجيد.
كل ذلك يسحقني بحق أشد سحق ولا أعرف شيئا يهون عليّ الأمر ولو قليلا، قد يكون ذلك الصليب المُقدّر لي حمله، وقد يكون وهما أعيش فيه كما أحلام المهاجرين، لا أعلم؟ وقد يربكك جهلي، ولكنني أعلم شيئا واحدا، وهو أنني لا أعلم شيئا.
أرجو من ذلك الحديث أن قارئه إن كان مثلي أن يعرف أنه ليس وحده، ولكن بكل أسف يجب أن أخبره أننا يجب أن نمر به وحدنا.
المخلص وحيد الداني.
******
هذا آخر مكتوب أنشره وأشاركه إلى حين، آمل أن يكون ما سبق لي نشره وكتابته أن يكون قد ساعد أحدا وأشعره بالألفة وأن يشعر أنه ليس وحيدا كما يتخيل، وأن تكون تركت أثرا طيبا، وذلك ليس لأمر سلبي وإنما في محاولة لأخذ خطوة جديدة نحو النمو، إلى حين.
21/1/2021
رسم: مريم أيمن.
مينا وجدي غطاس.
حلو جدا
ReplyDeleteشكرا جدا.
Delete