الأشواك

 


إهداء

لله الذي أهداني من عظيم كرمه

  أمي،

            وأبي،

                          وأختي.

  لم يتبقَ على سهرة الأسبوع لآل منسي سوى بضع سويعات، والتي تقام في بيت عم حليم بائع الفول، حتى الآن لم تظهر أمينة الشابة ابنة عم حليم على غير العادة، ظنت الظنون بدايةً أن جاءتها "الظروف" فلعلها تريح نفسها أو تحاول تحسين مظهرها قدر الإمكان حتى لا يبدو عليها الإرهاق، إلا أن ذلك لم يكن صحيحا؛ حيث كانت أمينة متسمرة خلف باب حجرتها وكأنما قد تلبسها جن، الدموع تنهمر من عينيها وتضع يدها على فمها حتى لا يعلو صوت نحيبها.

  ظنت أمينة في أول الأمر أنه حلم، فما أن قامت من نوم العصر حتى وجدت الوسادة التي نامت عليها ممزقة وكذلك بعض المواضع  في الملاءة، إذ ذاك أصابتها صدمة قوية وتساؤل كبير حول سبب ذلك، رشمت صليبا ودعت، ثم التفتت نحو المرآة لتتأكد من سلامة جلبابها، وقفت أمام المرآة وقد فغرت فاهها وأخرجت صرخة مكتومة كما الكوابيس؛ حيث تغطت بشرتها بشكل شبه كامل بأشواك بنية اللون، حينما لمست المواضع غير الشائكة في وجهها جرحتها.

  لم تجد أمينة مفرا من مناداة أمها والاستنجاد بها، ففتحت الباب لنصفه ثم نادت بصوت مخنوق "أماه"، ولم تمر ثوانٍ حتى ظهرت أم أمينة أمام ابنتها وقد وقفت لحظة لمعت فيها عيناها ثم حولت نظرتها لتلك النظرة المتفحصة الشاكة بوجود مصيبة، فأفصحت لها أمينة الأمر وعن سر الجرح على وجهها، ولكن أمها ردت عليها قائلة:

-        لا، لست أرى شيئا، ثم هيا يا بنت ساعدي أمك وتهيأي للناس الجايين!

  تلبس أمينة خوف مضعف من إنكار أمها لوجود أشواك عليها أكثر مما أراحها، "كيف رأت الجرح ولم ترَ الشوك؟"، وضعت قطنة صغيرة مرشوش عليها "ريحة" على الجرح ثم غيرت جلبابها وارتدت ثوبا ما أن نزل على جسدها حتى اخترقته الأشواك، حينها بكت أمينة ولكنها أدركت وجوب الخروج.

  لدى الخروج بدى أن أمها تحدث أباها في صدد أمر جلل، ثم سرعان ما رفعت صوتها حين لاحظت اقتراب أمينة متحدثة عن الحربائة زوجة أخيه التي تدس السم في العسل عند الحديث، ثم حين رآها عم حليم نهرها باسما:

-        أينفع أن تجرحي نفسك من الحك وأنتِ بتلك السن يا ابنتي؟!

-        قل لها يا أبا أمينة، قل!

  لم تفهم مزاح أبيها ولكنها توجهت للمطبخ وعزمت على مساعدة أمها لعلها فعلا تتوهم الأمر، أخذت المقورة وفرحت لأن ضررا لم يحل بها ثم تذكرت أنها معدن، ولم تلبث أن تمسك بإصبع باذنجان حتى خُرِق تماما مما جعلها ترتبك جدا وكاد الذنب يتلبسها، وسرعان ما صاحت أمها:

-        إيه!! أتريد أمينة يا حليم؟ اذهبي يا بنت لتساعدي أباكي هيا، الفتاة انطرشت!

  أخرجها ذلك النداء فورا من شعورها وتوجهت لأبيها مسرعةً، فطلب منها أن تسنده حتى يطلع فوق الكرسي يغير لمبةً، وما أن لمست يداها يده حتى أدمتها الجروح السطحية حيث قبض عم حليم يديه لحظة ثم تناسى الألم ووضعها على حافة الكرسي وعندها أطلق تأوها وسب الكرسي الخشن الذي جرحه، وأرسل الخبر لزوجته صياحا، التي ردت عليه لائمة إياه:

-        كثيرا ما قلت لك هذا الكرسي غير نافع!

-        حسنا حسنا يا امرأة! اذهبي أنتِ الآن يا أمينة واضبطي مظهرك.

  أوشكت على العدو نحو الغرفة ولم تتمالك نفسها حيث ارتمت على البلاط؛ فهو الوحيد الذي لا يمكن أن تؤثر فيه ثم أجهشت بالبكاء دَهِشَة، حدثت نفسها بملامة شريرة، "لقد أحدثتِ ضررا لكل شيء حولكِ، يا أيتها اللعنة!".

  ظلت أمينة على حالها لوقت طويل حتى تبقى عشرة دقائق على بداية استقبال العائلة، وقامت بإصلاح مظهرها باستخدام أدوات التجميل التي لن تفسد حين تلمسها، وهكذا خرجت لأمها وأبيها اللذين كانا يتحدثان والأسى سيد الوجهين، تقدمت أمينة بخفة متنصطة عليهما، حينذاك كان أبوها يقول: "ولكنني يا عايدة أخاف عليها!"، إلا أن أمينة بقدر من إيحاء الموقف سمعتها "أخاف منها" وقد بلغت نصف المسافة حتى والديها اللذين تسمرا لحظة رؤيتها، وبسرعة صاحت الأم بوجوب إرسال أحد الأطفال من أمام البيت لشراء الحاجة الساقعة، كيف ينسى حليم؟!

  ظهر الارتباك جليا على أمينة وأمها ورغم ذلك لم تحدث إحداهن الأخرى، عادت أمينة مرة أخرى لغرفتها حيث مخبأها الوحيد، ولم تبكي وإنما أخذت تحدق في الوسادة الممزقة، والملاءة، وفي ثوبها البادية منه الأشواك، واسترجعت جرح أبيها، "كانا يران!"، تمتمت بذلك عدة مرات وهي تستند بظهرها على لباب، وشعرت بلعنة وجودها، لماذا كذبا ووضعاها في منطقة الجنون؟

  انتظرت أمينة التجمع الكبير للتحرك، خرجت وتصرفت بطبيعة مشبوهة، تجاهلت الخُرَق التي أحدثتها حينما جلست على الكنبة بجوار أمها، وقابلتها مجاملات مزيفة، ثم انسلت من بينهم وهرولت نحو النهر تبكي المرّ، تأملت نور القمر على صفحته وتأملت شكلها كذلك، "أي مصدر شر أنا!".

  وجهها للنيل، وظهرها للبيت، ترددت كثيرا في أمرها، إلا أن حبا طاغيا أعماها عن سوء نتيجة القرار، واستحثها على التقدم خطوة تلو خطوة ببطئ قاتل، ثم تراءى لها الواقع خيالا لو لم تكن موجودة نهائيا وكم العناء الذي سينتهي لذهابها.

  حينما تبقت خطوة لأمينة للتحرر من شرها والنزول للنيل، سمعت صوت شبشب يعدو بل يكاد يطير من على الأرض، ولم تمر هنيهة حتى اصطدم بها جسد أمها، واحتضنها من الخلف على أشده وأحاطتها بذراعيها، وهي تهمس كثيرا في أذنيها: " لا تفلتِ، لا تفلتِ"، واستمرا على ذلك الحال، الأشواك تنغرس في جسد الأم، وتظل تنزف دما، لا النزيف ينتهي، ولا الدماء تجف.

رسم: مريم أيمن.

مينا وجدي غطاس.

Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟