وحيد الداني، الجزء الأخير: اليقين.
كانوا ثلاثة على وجه التحديد، أولهم خلف وحيد،
والاثنين الآخرين يحيطانه يمينا ويسارا بزوايا كأنما يشكلون مثلثا ليس بمثلث
فيثاغورث وإنما هو خطِرٌ، أدرك وحيد ما سينزل به ببطء حيث إن المفاجئة من شدة
هولها صعقته، رويدا رويدا بانت ملامح كل منهم ولم يكن يفرق بين وجه كل منهم إلا
مكان علامة الزمن والشقاوة عليهم، ووحيد يدور برأسه بسرعة كالبومة وهو في حيرة من
أمره قد تضيع عليه حياته؛ إذ إنه إن لم يتصرف كما يجب سيقع في مأزق كبير؛ خصوصا
لأنه لا يحمل شيئا ذا قيمة إطلاقا، إلا إذا أرادوا كبده أو كليتيه فذاك موضوع آخر.
رفع وحيد الداني
ناظريه بشكل لا إرادي للسماء فكأنما يحاول الاستعانة بأي ذي قوة، إلا أن شيئا لم
يتحرك أو يتغير، أخذه من أمله ألمٌ في قفاه حيث أمسك به أحدهم بشدة وقسوة بيدٍ
خشِنة وأظافر كالمخالب، فأصبح وحيد كالأرنب منكمشا في يد صائده، ولم يدم الحال
أكثر من لحظات معدودة إذ انضم الباقية واقتربا منه فأمسكاه من جانبيه، والزعيم في
الخلف يتحسس بيده كل ما تقع عليه يده في جسد فريسته، كل الجيوب، وكل مكان أمكن
إخفاء شيء فيه، وبالرغم من تجمد وحيد وأنه كاد يبول على نفسه من فرط الرعب إلا أن
عرقا غزيرا انصب من جبينه شلالا، وقد أخذ وقتا حتى استجمع تركيزه فحدثهم لأول مرة:
-
قسما بالله ليس معي شيئا يفيدكم!
-
من أولها كذب يا روح أمك.
ثم سرعان ما أقلعت
اليد الممسكة به وحطت على قفاه ثانيةً بقوة كادت تفصل رأسه عن جسمه، فسكت وحيد
تماما وقد شعر بأن عقله من داخل جمجمته قد ارتج بالكامل، ولم يكن في مستطاعه إلا
التحديق في الفجوات، ومع مرور ثوانٍ تساءل "لماذا لا يظهر الآن؟"، أفرغ
الزعيم كل ما معرفته في التفتيش ولم يجد جنيها حتى أو محمول يمكن بيعه فيوفر ثمن التعميرة.
ليس أمامه الآن
سوى أمر واحد، أصدر إشارة خبيثة لزميليه فهوى كل منهم بيده على وحيد الذي لم يأخذ
وقتا طويلا حتى سقط أرضا، ولم يعرف كيف يتلاشى اللعنات والسباب وكذلك الركلات
واللكمات، حتى كاد ينقطع عنه الوعي، إلا أن صوت سيارة عنيف تمر بسرعة جعلهم يحولون
أنظارهم في كل الزوايا كالضباع ومن ثم الهروب عدوا، في تلك اللحظة التي أصبح فيها
وحيد وحيدا سمع صوت الكاتب.
.. في تلك
الأثناء وبينما وحيد ملقى على الأرض لا حول له ولا قوة، آن للشمس أن تطلع عليه بعد
ليل طويل أليم..
فكأنما استوعب
وحيد الرسالة، استجمع على مهل عقله ووعيه
وقوته للنهوض، فلما قام وحيد نظر للسماء فرأها تشرق بنور جعل عينيه المرهقتين
تضيقان وتُحرقان، ولكنه مع بعض الوقت صار قادرا أن يتحمل النور.
قرر وحيد الخروج
من مساكن الضباط، إلى أين؟ لم يعلم، ولكن ذلك ليس بالجديد؛ حيث إن وحيد قد أمضى ما
مضى من عمره بتلك الطريقة، لا يعلم أين يسير إلا أنه يسير فقط، وهكذا خرج وحيد
للشارع المطل على الترام ثانية، وبينما ذهنه مشتت بعض الشيء جاءت سيارة مسرعة كأنها
تكاد تخترق حاجز الصوت، منبثقة من العدم.
"قف".
وحدث الاصطدام.
توقفت السيارة
والدخان النابع من احتكاك الإطارات مع الأسفلت كثيف جدا خانق، جثة ملقاة على الأرض
هامدة، عدة ارتجافات شديدة مرت عبر أطرافها ثم سكون تام لا يعرف سوى الموت، الدماء
على الأرض تنتشر كأنما تصرخ وتُشَهِّد الكون على الحادثة، وجه الجثة ملتصق بالأرض
يرفض النظر للذي قتله وللذين شهدوا مقتله.
بينما ينزل السائق
من السيارة وكل من كان مارا أو بواب عمارة يتجمع، كان وحيد الداني يجلس على الأرض
وهو مدهوش أشد دهشة وعيناه مفتوحتان عن آخرهما، حدث الأمر كله في غمضة عين، كانت
السيارة تقترب بسرعة شديدة والموت محقق وأكيد لا محالة ، قفز شخص أتى من حيث لا
يدري وأبعده عن مرمى السيارة وقُتِل هو، لم يكن وحيد يشعر بالحزن في تلك اللحظة
إلا أن الدموع الغزيرة انفجرت من عينيه ونفسه المتلاحق العنيف كان مسموعا بوضوح،
قام بمساعدة الذين حوله وحينما ألقى نظرة على الشخص الذي أنقذه وجد بيده اليمنى
كتابا، بان منه حرفان فقط وهما الواو والحاء، انجذب وحيد بغرابة للكتاب، وبين
الاستغفار والترحم والطلب الإسعاف، دنا وحيد من الجثة وجذب الكتاب غير آبه بما
يحدث من حوله، وجذب قليلا الكتاب دون اقتلاعه من يد الرجل حتى تبين له العنوان،
وما أن تبين له حى بُهِت وخَرُس تماما؛ إذ مكتوب على الغلاف "وحيد
الداني".
استقام وحيد،
وتحرك من مكانه تاركا كل من يريد الاطمئنان عليه من الملتمين حول الحادث بدون كلام
أو شكر، مشى في البداية ولا زالت الدموع منهمرة، ثم أسرع حتى جرى نحو غرب المدينة.
حين وصل وحيد
الداني عند سيدي جابر الشيخ كان قد أرهق؛ فلا زال أثر السقوط والضرب موجودا، وعلى
رصيف المحطة يفكر ويفكر بدون رؤية واضحة، "أيعقل؟"، أخذ وأعطى كثيرا
بينه وبين ذاته، حتى يأس فنظر إلى السماء، وجد الفجوات التي كانت موجودة أمس في
محلها ولكنها..أصغر وتضيق!
في تلك اللحظة علم
وجوب المشي، وفي قلبه نوع من الرضا، مشى ومشى وهو منتظر صوت الكاتب يرشده لأرشد
أمره، حتى استغرق منه الأمر أكثر من ساعة ونصف، والساعة الآن هي السابعة والنصف،
مشى على الكورنيش، ثم اتجه ثانية إلى الترام، ومنها إلى أبي قير، يتقدم ثم يتراجع
وهلم جرا.
وصل الآن وحيد إلى
الشاطبي، بعدما وجد الطريق مفتوحة وميسرة بلا زحام كالأمس، اتخذ من شارع بورسعيد
طريقه وترك طريق الترام، أكمل طريقه نحو الأزاريطة والناس من حوله بدأوا يظهرون في
الشوارع، كل في حاله، لا أحد يحدق في وحيد، من يستفتح، ومن يريد أن يلحق البنك وهو
فارغ من العملاء، والفاعل الذي يسرع للذهاب لموقع عمله، دبت الحياة في الشارع
الفاضية الخالية من الحياة مرة أخرى.
شيء ما أوحى لوحيد
بالدخول من شارع كلية طب أسنان والاتجاه نحو بداية شارع فؤاد، ولكنه في وسط الشارع
وسط الطلبة والسياس والعربات وجد نفسه يحاط بتساؤل مفاجئ، "إلى أين أذهب،
ولماذا أسلك ذلك الطريق؟"، ثم الجوع يضربه والعطش يخنقه، ولكنه وجد فؤاده
يدفعه لإكمال الطريق دون الالتفات حتى يصل إلى أي شيء.
نظر إلى السماء
ثانية فوجد الفجوات أصغر وأصغر، ارتاح لذلك وأكمل طريقه، وحدث أن أصبحت طرقا تزدحم
وطرقا سهل المشي فيها، يسلك دروبه وهو يريد الوصول، حتى وصل إلى أحد الشوارع
الجانبية من شارع فؤاد حيث لا توجد لا مطاعم ولا شيء ترفيهي.
..عندئذ يقف وحيد
على ناصية الشارع العمومي ثم يدخل في الشارع الفرعي.
فعل كما هو مكتوب
وقد ارتسمت بسمة هادئة على وجهه لسماع صوت الكاتب من فوق، واستمر في المشي باسما
حتى توقف ما أن رأى مشهدا: شابة تخرج من باب العمارة وورائها شعرها البني المنساب
على ظهرها، لم يصدق نظره لذلك دقق النظر، واقترب أكثر وحيد من العمارة، إنها هي،
سارة جميل!
يا الله!
اقترب أكثر من
العمارة وهو مبتسم، وآلام الفجر تترك جسده ومعها ظنون ألأمس، انتشرت في الفضاء
نسمات حركت الأشجار القليلة في الشارع وهزتها برفق وغازلت شعر سارة، وأيضا داعبت
وجه وحيد البسام وهو يقف على مبعدة خمسة عشر مترا من سارة، وسرعان ما نظر للسماء
في تفهم ورضا، وقد أغلقت الفجوات التي بها تماما فكل شيء قد أُكمل.
تمت،
وحيد يشكركم على كل شيء.
رسم: مريم أيمن.
مينا وجدي غطاس.
Comments
Post a Comment