وحيد الداني، الجزء الأول: المهد



  السماء تمطر، السيارات تسير بصعوبة في شارع الليجاتيه وسط الباعة المحتمين بالأسقف ومداخل العمائر والبلكونات، هموم تمشي على أقدام في كل مكان، سواء على الرصيف أو الشارع، وتصطدم ببعضها البعض وتكمل مشيها دون اكتراث، تعلو على صوت المطر المنهمر أصوات أبواق السيارات حيث يوجد عربجي يحاول تغيير مسار عربته عند التقاطع الثاني من الشارع، العمائر تصطف يمينا ويسارا متباينة الأطوال وكأنها ستبتلع الشارع ومن فيه، والنوافذ أغلبها مغلقة أقلها مفتوحة، ومن بينها يخرج خيط رفيع من الدخان الأبيض سرعان ما يتبعثر في الهواء من نافذة يخرج منها نور أصفر باهت ويستند إليها وحيد الداني.

  وحيد، في منتصف الثلاثين، ذو أتب في الظهر، ورأس هجرها معظم الشعر ولم يبق منه إلا قلة قليلة يتسرب إليها اللون الرمادي، يقف بفانلته وسيجارته، يأخذ كل نفس ويخرجه بقوة عسى أن يكون الأخير، هل حقا الأسماء على مسمى؟ وإن كان كذلك فلماذا سموني بذلك الإسم؟ هكذا حدث نفسه، ونظر لأسفل وحدق بالناس في الشارع وهم في حركة آلية في كل الاتجاهات، وركز فيهم؛ يمشون جماعات وأزواج، والأفراد يتقابلون، شعر أنه معلق في الفضاء بين السماء والشارع، فلا يستطيع الارتقاء للأعلى أو النزول للأسفل.

  لاحظ حينما دقق النظر أكثر في المارة والدا يمسك يد ابنه وهو يرتدي ملابس فريق كرة قدم وبيده كرة جديدة رديئة ولكن جدتها أوجدت سعادة في مشية الصبي المتحمسة طغت على أي عيب فيها، تابعهما حتى ذابا في وسط الناس، ثم تذكر، تمنى أن يكون موهوبا في لعب الكرة، ولكم سرح به خياله حتى جعله يلتقي رونالدو وشيفشينكو وزيدان في نهائيات سجل فيها الهدف الحاسم في الدقيقة الأخيرة، كما أوصل مصر كأس العالم بعد مباراة شديدة الصعوبة ضد الجزائر، حلم في مراهقته أيضا بقدرته على الغناء وامتلاكه صوتا عذبا ينتشله من مكانه ويضعه فوق العالم ليراه الكل، ولكنه لم يكن يمتلك لا القدم ولا الحنجرة.

  تساءل بينما هو واقف عن السبب الذي جعله منعدم الموهبة، وهل انعدام الموهبة يساوي انعدام الوجود؟ هل قيمة الذهب في كونه ذهب أم في لمعانه؟ وإن كان منعدم الوجود في نظر الناس، أيعني ذلك انعدام الوجود حقا؟ هل هو غير موجود؟ وإن كان كذلك فلماذا يعيش، ولماذا وُلد من الأصل؟ بما يجديه نفعا وجود بلا معنى؟

  أخذ يمعن النظر في غرفته لعله يجد شيئا، الطلاء الأبيض المصفر، السرير الذي لم يتغير منذ وُلد ومُعلق عليه الملصوقات بشخصيات الكرتون واللاعبين والمغنيين، بعضها كامل كما أُلصِق من سنين والبعض الأخر جزء منه مقطوع، الطاولة المستطيلة المعاملة كأنها مكتب والأوراق المتناثرة عليها والأقلام المبعثرة، الأرض البلاطية المغطاة بسجاجيد صغيرة بالية، وفي الركن توجد مروحة صغيرة واجب عليها أن تنسيه حر الصيف بدلا من التكييف الغالي الذي سيكلف مصاريف كهرباء كسعره، هكذا كان يقول أبوه.

  لم يجد شيئا في الغرفة التي عاش فيها، لم يجد لا المغزى ولا ذكرى حلوة، واستنتج من ذلك أنه إن كانت الغرفة التي عاش فيها تخلو من المعنى فالحياة التي يعيشها ليس لها أيضا.

  أخرج هاتفه المحمول، قذف بجسده على السرير الذي استقبله بصلابة آلمت أسفل ظهره قليلا، قلّب في كل التطبيقات المتاحة عن أي شيء يمكنه أن يرفه به عن ذاته الضائقة بالعالم الواسع الذي يعيش فيه، كل تلك الصور، كل تلك المنشورات، كل تلك الحكم والآيات، وكل ذلك السباب والعراك، والمحبين، لم يستوقفه شيء منها، وبين تلك الوسائل التي يثبت كلٌ من خلالها وجوده لم يعرف هو كيف يثبت وجوده؛ فالبغايا يسلكن مسكلهن الخاص، والرياضيون يتخذون دربا واضحا، والمثقفون طرقهم معروفة، والمتعصبون صوتهم مسموع، أما هو فقد استدان من شركة خطوط المحمول الخاصة به أربعة جنيهات للمرة الثالثة حتى يفتح الإنترنت.

  يرى في التصفح صورا لأشخاص لا يعرفهم، بعضهم بنات شبه عاريات يجذبه عريهن لكنه يستغفر ثم ينزل بسرعة حتى لا يتمكن إبليس من الزن في أذنه، ثم يثيره الفضول لمعرفة لون طلاء الشفاه الخاص بهن فيرجع مرة أخرى يختلس نظرة تشبع فضوله وعينه ثم يكمل بطريقة الآلية لا يشعر فيها بأي سيطرة على نفسه، بل على العكس، وعند ذلك يتساءل "لماذا أشعر حينما أعمل عملا حسنا بالسيطرة والإرادة، وحينما أخطئ بالآلية؟"، لم يقدر ذلك السؤال في التسلل أكثر إلى عقله حيث استوقفته صورة واحدة لا تستوقفه صورة سواها، تلك لا ينظر إليها حتى يعرف لون الطلاء أو يشبع جوعا بداخله، وإنما يشبع جسده كله بالدم المتدفق حيث يقوم قلبه بضخ الدم بحب وقوة، تلك صورة سارة، سارة جميل، هذه الفتاة التي لطالما حلم لو استطاع يوما أن يبوح لها بالسر، أحبك، اعتاد تخيل نفسه في الصبا وهو يقولها بعدما يطيح ببعض الفتية الصِيّع أرضا، ثم رويدا رويدا في أوائل الشباب بعدما اختلا بها في جلسة بعد ظروف غامضة وضعتهما وحدهما، ثم الآن أصبح لا يرى شيئا في خياله سوى أنه يسمع تلك الكلمة، ولكن لم يحدث ولا مرة أن أسمعها إياها.



  استرخى وحيد الداني في مشهد سينمائي وقد قلب شاشة المحمول على صدره وارتسمت على ثغره بسمة وأغلق عينيه رويدا باحثا عن أي لذة نقية تعزي قلبه المولع الوَلِه، ولكن على عكس رغبته اجتاح لبه وروحه حزن عميق غير مبرر لا يعرف مصدره ولا أي سبب له، ماذا يحدث؟ وانتقل من ذلك التساؤل للماذا؟ ثم ما معنى ذلك؟ وأخيرا ماذا بعد؟ بعدها مات الحزن في قلبه ووُلِد غضب شديد مجهول المصدر، فقام ثائرا وهو يقطع الغرفة ذهابا وإيابا ويزفر بأنفاس مخنوقة وأعين تتمنى البكاء حتى العمى، وفم يتمنى الصارخ بأعلى ما يمكنه، ماذا بحق السماء والأرض يحدث؟

...فقام ثائرا وهو يقطع الغرفة ذهابا وإيابا وهو يزفر بأنفاس مخنوقة وأعين تتمنى البكاء حتى العمى، وفم يتمنى الصارخ بأعلى ما يمكنه، ماذا بحق السماء والأرض يحدث؟


  ترامت لمسمعه تلك العبارة بصوت رخيم ليس يشبه صوته في شيء، ثم توقف وهو مركوب من الهلع وعيناه تملعان دهشة، ذلك ليس صوت أمه، ولا صوت للجيران يمكن أن يبلغه ويتغلب على جلبة الشارع.

... ثم توقف وهو مركوب من الهلع وعينيه تملعان دهشة، ذلك ليس صوت أمه، ولا صوت للجيران يمكن أن يبلغه ويتغلب على جلبة الشارع.

  سمع الصوت مرة أخرى وقد أباد الخوف أي طمأنينة بداخله، فاتجه بحركة آلية إلى النافذة المفتوحة، وبدون أي داعٍ حدق في السماء، "لماذا؟"، السماء ليس بها شيء، وليس المهدي، ولكنه ومع تشبُث عينيه ونظره للسماء في الليل وجد شيئا غير مألوف، دقق البصر أكثر فرأى فجوات في السماء أكثر سوادا من السماء ذاتها، ثقوب هائلة الحجم وكأن العالم غير مكتمل البناء، وتناهى إلى سمعه: " استغرق وحيد الداني في التحديق ذاهلا إلى السماء والفجوات التي بها وهو يكاد يموت تعجبا، وفي عقله حقيقة صغيرة تنال منه كما تنال النار من الوقود قبل الإنفجار بلحظات، ثم يأخذه من تركيزه رنين الهاتف المحمول.."

  رن الهاتف المحمول، ووحيد يحرك رأسه نافية مكذِّبا كل ما يحدث حوله، اتجه نحو السرير الموضوع عليه الهاتف وأطفأه دون الاهتمام بالمتصل، وحاصرته الحقيقة أمر محاصرة.

...في تلك اللحظات وقع وحيد الداني في شبكة من خيطين،أحدهما اليقين بالحقيقة والآخر تكذيبها، وطرحته أرضا فكرة بأنه مسيّر أعمته عن التفكير، وفي اللحظة ذاتها رجح لماذا لم يكن له طريقا واضحا، والسبب حول شعوره بانعدام الوجود، ولماذا لم يُسمع سارة الكلمة التي تمناها.

  جرى وحيد والغضب والجحود يعميانه نحو النافذة وهو بين سب المصير والقدر، وبين الاستغفار، وحينما أراد القفز وجد نفسه عاجزا، فتجمد مكانه وهو يجدق ببرود إلى السماء، وفوهه مفتوح قليلا ، والدموع تسقط واحدة تلو الأخرى من عينيه.

انتظر الجزء الثاني...

رسومات: مريم أيمن.

مينا وجدي غطاس.

Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟