الإنسان بين الإقرار والإنكار
**تنويه: الهدف الأساسي من نشر الكتابات هو إيجاد قراء جدد بصفة مستمرة، والسبيل الوحيد لذلك هو مشاركتكم للكاتبات مع الآخرين، ففضلا وتقديرا للمجهود المبذول، إن أعجبتكم إحدى الكتابات فانشروها قدرما استطعتم.
صاحب تلك الكلمات ليس بابن حسن وليس ذا علم
وعلاقة وطيدة مستقرة مع خالقه، وإنما قد طرحته الدنيا أرضا ألف ألف مرة، ويبحث في
فضاء الله الرحب عن نور ينقذ به ذاته المنسحقة تضرعا أمام خالقها، وليس يخطها فخرا
أو وعظا، بل تذكرة لنفسه بسقوطه وإلزاما لنفسه باتباع الطريق الي ضلها يوما،
والأهم أنه يخطها عساها تساعد أحدهم في إيجاد الطريق كما أنقذته كلمات من التيه.
ولعل أهم ما يجب أن نتطرق له بدايةً هو بحث
الإنسان عن المعنى، ذاك البحث المضني والصعب الذي إما يؤدي بالمرء لأول خطوات
النعيم والإقرار أو الهلاك المحتم يوميا ومع كل نفس؛ فالذين يجدون المعنى كأنما
وجدوا السعادة السرمدية أيا كان المعنى الذي وجدوه؛ فمثلا الإرهابي لا يُرى حزينا
إلا حينما يُهزم – وليس الموت – وعدا ذلك يمضي أيامه سعيدا في خدمة المعنى الذي
وجده، وليس الإرهابي المعاصر هو الذي نذكره فقط وإنما على كل العصور، إذ أن من
الأشياء القاطعة في العالم هو وجود سمات مشتركة بين الناس على مر تاريخ الإنسان،
وللعلم أن الإرهابي – وذلك ليس تعميمًا – يكون أحيانا قارئا نهما حيث يبحث في تلك
الكتب السامة عن المعنى ويغترف منها حتى يشبع، ومن أهم المشاهد التي أوحت لنا بذلك
الاستنتاج هو فيلم "عن الآباء والأبناء" الوثائقي حيث حدث قصف على جماعة
داعشية، وفقد فيه رجل طرفا ولكن ما أحزنه ضياع متكتبته التي كانت مليئة بالكتب
الضخمة.
إذا من تلك النقطة نسأل أنفسنا "ماذا يحدث
إن لم يجد المرء المعنى؟"، نرى أن الإنسان يبدأ في وضع أول خطوة في طريق
الإنكار، وذلك ليس لأنه حاقد، ولكن لنتخيل أُمًا أمضت سنين من حياتها تنظم غرفة،
وتُعِد الطعام وتقدمه ثم تكتشف في مرة حينما تود البحث عن طفلها أنه لم يكن لها
أطفالا من الأساس (أو على الأقل حتى الآن)، فتنهار هي ومعها العالم الذي عاشت فيه،
وبذلك وجب طرح سؤال وهو "لماذا لا يجد المرء المعنى؟".
هنا تنقسم الإجابة لعدة إجابات سنتبينها من
المثال الآتي: سأل طفل أباه "من أين جئنا؟" هنا قد يجيب الأب بزجر ابنه
وأنه حينما يكبر سيعرف، وقد يعطيه إجابة ساذجة كأنه تزوج من أمه وطلبا من الله
هدية، وقد يحاول شرح الأمر علميا ببساطة فيفشل، وهنا يتضح سبب الفشل، فالتعدد في
الإجابات عن الأسئلة الوجودية والبحث عن الحقيقة يتلخص في أربع:
أ.
شخص طرح سؤالا ولم يجد له إجابة.
ب. آخر وجد إجابة ساذجة.
ت. وآخر أُرهِب وزُجِر من الذين حوله.
ث. أخير لا يقبل اي إجابة تنافي ذاته.
ومن الأسباب الأخرى للإنكار هي أحادية التوجه،
أي أن الفرد عند بحثه في معتقد ما، فهو يبحث دائما في الاتجاه المؤيد أو المخالف،
تماما كالذي يبحث عن هاتفه في غرفة واحدة من منزل به ألف غرفة، ومن ثم فإن الباحث
يقع في خطأ يترتب عليه إطلاق حكم ذاتي مطلق؛ فالمؤمن يقرأ كتب الدين فقط دون
الاطلاع على العقائد الأخرى والفلسفات، والناكر يقرأ في العلم فقط والفلسفة دون
قراءة رد الدين فيما يُختلف عليه.
حديثنا الأخير عن العلم لا يعني نهائيا تضارب
العلم والدين، وليس في محاولة لإثبات أن الدين علم مثلا أو أنهما يتفقان دوما،
ولكننا نرى دائما الأشخاص المبتعدين ينكرون وجود الخالق والدين بسبب العلم، وتكون
الحجة أن العلم لم يجد دليلا ماديا على وجود الله، فنقول له إن العلم لم يجد أدلة
مادية قاطعة تنفي وجوده، وهم هكذا يرتكبون مغالطة منطقية ألا وهي قياس ثابت على
متحرك، أي أنه يريد من الدين – و الأديان كلها في صورة تامة – أن يتوافق مع كل
مواضيع العلم الذي هو احتمالي لا يقيني، فيحدث مثلا إنكار بسبب وجود نظرية يؤيدها
عدد من الأدلة، وهو أيضا يغفل جانبا ما ورائيا أو غيبيا ألا وهو الإيمان وهنا
نُعَرِّف الإيمان: وهو التصديق بشيء أو أمر دون وجوده ماديا أمام نواظرنا، ولكن
العلم يخلو من الإيمان ليس لأنه يدعو للإنكار وإنما لطبيعته الموضوعية المادية،
فيقول أحدهم إن الدين علم كما بقية العلوم كأنه بذلك يحميه وإنما بذلك فهو يدنيه،
صحيح أن الدين به معرفة ودراسة ولكنه ليس علما ببساطة لأنه أسلوب حياة نهائي وقطعي
وإيماني.
وأيضا لا نغفل أنه من أسباب ترك الدين هو رجال
الدين، وهناك مقالين لا يستطيع الأعمى إنكارهما: مصر حاليا وأوربا سابقا، وقد يحدث
ذلك ويحدث بسبب استبداد رجال الدين، فالرجل الذي لا يؤمن بالحوار والتفكير وطرح
اللأسئلة لهو مسئول مثله مثل الشيطان، ويظهر حولهم هالة من التقديس تجعلهم لا
يخطئون وتجعل الناس يتبعونهم بدلا من الدين، فينظر المرء له في احتقار، وبسبب
ارتباط رجال الدين بالدين في المجتمع كأنه هو الدين، ينتقل الاحتقار أيضا للدين.
فكم من رجل دين سُئِل فزجر أو سخر أو ماطل في
الإجابة أو اتهم السائل بالكفر أو
الهرطقة، أو يسكته متحججا بأن له علما ليس للسائل؟ وعلى إثره فإن الجمهور ينظر
للباحث عن الحقيقة أو السائل بسخرية ويرذلونه، مما يُكوّن عنده اتجاها منافيا
للدين والاعتقاد في وجود الخالق.
أما الآن فنسضع أمام أعيننا السؤال الذي يُطرح
دائما: "إن كان الله موجودا فلماذا توجد تلك الحروب؟"، ثم بعد قليل:
"إن كان الله عالم الغيب، فإن الإنسان مسير لا إرادة له؟"، منطقيا، قد
أجاب المرء على ذاته؛ فمثلا في أوربا في الحرب العالمية الثانية ضربتها عاصفة
رهيبة من الإنكار عنوانها "أين الله وسط كل ذلك الخراب؟"، ولكن من أمر
ببدء الحرب؟ ومن شارك فيها؟ من ضغط الزناد؟ هل هو الخالق أم المخلوق؟ وبالتالي
وجود الله لا يتنافى مع إرادة الإنسان، بهذا نكون قد أجبنا أيضا عن الخيير
والتسيير، والحقيقة أن الإنسان مسير في كونه مخيرا، ولكن لكل اختيار مسار، وبداخل
كل مسار اختيار جديد، أي أنه يجب على المرء الاختيار في حياته، وعدم اختياره لشيء
هو بذاته اختيار؛ فالمتعاطي يكون له الاختيار أول مرة ثم يرتسم مساره الإدماني،
وفي أثنائه توجد لحظات اختيار بالعودة أو الإكمال.
من أهم العوامل الذي يستحيل تجاهله هو الذات
الأنى؛ فالمعتقد يطلب من المرء الالتزام والترك، في حين يريد الفرد العيش في حرية
حيوانية كما في أفلام أوربا وهوليوود حينما يمشي البطل أو البطلة وعلى وجهه بسمة
بلهاء بعدما ترك أسرته ووظيفته ويقع في حب أول امرأة يقابلها، مُنساقا دون تحكم
عقلي، كأنما كسر القيود وصار إنسانا... لا، لم يصر إنسانا؛ فالحرية من وجهة نظرنا
هي اختيار الصليب الذي تحمله أي اختيار الالتزام الأخلاقي أو القيد الذي تلتزم به؛
فالمرء يفقد إنسانيته دون الاعتبارات المعنوية، وهنا يُخلق الإنسان المتفوق الحق،
وليس حيوان نيتشه المتفوق محب الأرض الداني من التراب.
في نهاية الحديث، إن تجاوز المرء مراحل البحث
السابقة – بشرط ألا يكون البحث عبثيا بل هادفا – فإنه قد يصل للإقرار بوجود ضابط
للعالم، ومنه يتجه للإعتقاد بدين معين، ولكن يقع عليه عبء مسئولية هنا، ألا وهو
وجوب التساؤل المستمر، الفسؤال أساس الإجابة، وبدون الإجابة فلا هدى لنا، وأيضا
واجب عليه عدم الشعور بالثقة؛ فالله الذي خلقه قد خلق غيره، والدين الذي يدين به
هناك أديان أخرى كل يظن أنه الحق؛ الشعور بالتميز – التميز السلبي المتعالي وليس
التميز بالشعور بمحبة الله – هو خالق التعصب، وبخاصة السائد في مجتمعنا الذ هو دخيل
علينا وليس من أساسنا وهذا حديث لاحق سنجريه.
مينا وجدي غطاس.
Artwork: Thinking Man, Ang Kiukok.
Comments
Post a Comment