صمت لا بأس به

 

" طوبى للأرواح التي تعيش فرادى ولا يشعر بوجودها أحد إلا حينما ترحل، تلك الأرواح التي لحظها العَسِر قد تتقاطع طرقها دون أن تعرف فتعيش  طوال حياتها بلا مُعَزٍ أو حبيب أو خليل أو أي شيء، وحدها في الكون."

-مينا وجدي.

  لم يكن للمكيف فائدة له حيث إن مجلسه بجانب الشرفة لم يحمه من الشمس الطاغية ولعله الوحيد الذي طالته الشمس من المجلس بينما البقية في ظل وطراوة حلوة، كان المجلس حوله نصف دائري مفتوح من ناحية الشرفة، تتعالى الضحكات حينا وتخفض حينا آخر ثم تعود مرة أخرى تعلو، والجمع مكون من شباب أغلبية وشابات أقلية، ولم يكن فم ينتهي من الحديث حتى يقاطعه آخر أو يبدأ حديثا جديدا.

  بينهم كان يجلس رفيق الذي يستمتع بالحديث الدائر بين ياسين وزياد والمناوشات بين أحمد وندى، بين "أعطني الشنتة يا أحمت..هههه" وبين تقليد الأساتذة والسباب الخفيف الذي لا يخدش الحياء، ويتقدم في جلسته للأمام كل حين لسماع الآخرين بسبب مجلسه المتطرف، فيضحك واجبا مع الضاحكون وإن كانت نكتة إسماعيل لم تنزل به أي فكاهة، ثم يصمت ويركز مع المتحدث أيا كان الموضوع محاولة لإلمام أكبر قدر من المعلومات والإفيهات الذي يبقيه مطلعا على كل ما هو حديث، كل ذلك وهو صامت لا يحدث أحدا ولا يحدثه أحد، والحق يقال إن ذلك ليس بالجديد في كل جلسة.

  ضاقت بشرة رفيق بالشمس وضاق قلبه بالحديث، شعر بثقل يربض على روحه وكأن عقله يكسر أغلالا صدأت واشتعلت فيه رغبة بالحديث، توهجت في نفسه شهوة الكلام وأن يسمع، وإن لم يكن ذلك حبا في الحديث وإنما أملا في الشعور بالوجود.

  ولكن كان أحمد لا يزال يروي ما حدث معه البارحة في البيت حيث تعارك أشد العراك مع أبيه:

-        أشعر أنه لا يفهمني، هو في وادِ وأنا في آخر، لا يرى كيف أعمل وكيف يظلمني الدكتور في الدرجات ويلصق كل شيء بي وما أفعله من نشاط ورياضة على أنها مضيعة للوقت، ولا يساندني أحدٌ في المنزل، أنا لا أجد حقا من يفهمني ويسمعني.

  فيعاتبه الكل ويتعاطف معه، ويربت على كتفه إسماعيل متضامنا وتنصحه ندى ونور بالحديث والنقاش والدعاء فتُحل الأزمات وتنجلي.

  ثم انتقلت موجة الحزن وعدم التفهم والوحدة من لسان إلى لسان، كلٌ يشكو الظروف والفراغ والصمت الاضطراري بينما يريد رفيق بشدة التحدث، فأخذ يفكر في أثناء تركيزه مع كل منهم فيما يستطيع قوله وحكيه، ولأن اللحن حزين فتحفز وتأهب ليعزف لحنه الحزن، لكن سرعان ما كان سيبدأ يزف إليهم النوازل قطع إسماعيل الفكاهي الطريق عليه:

-        أشباب بالله عليكم، نحن لا نخرج كل يوم! دعكم من شغل كل المآسي صارت مقاسي تلك، لنبتهج بعض الشيء!!

  انهالت النكات ثانية على الطاولة وصار رفيق يفكر ويضحك، فلم يكن يدري ما يمكن قوله، ماذا يجب أن يقول؟ وإن كان الذي يقوله له فائدة أو حاجة أم لا.

  ثم انقلب الحوار من النكات للمسلسلات تعسر حظ رفيق في العثور على ثغر ينفذ منه للحديث، تحدثوا عن مسلسلات يعرفها اسما يجهلها موضوعا مما حال دونه والانغماس بينهم.

  لكن تلك الصعوبات لم تكبح جماحه رغبة في الإحساس بالوجود، فصار يقلب في عقله ما شاهده من مسلسلات لكن اتضح له أن آخر ما شاهده هو الحاج عبد الغفور البرعي بينما نور نتفلكس تتحدث ببراعة وبموسوعية عن طومي شِلبي ونيروبي وبران ستارك كما لو كانوا أفرادا من عائلتها، فحاول استخلاص مما يحكونه من أحداث وتعليقات يطلقونها ملحوظة يمكنه المشاركة بها، ولكن هيهات؛ الحديث صار في الكرة رغم تأفف البنات إلا أنهن حين أدركن أنه لا محالة من تراجع الشباب المتحمس جهرت كل منهن بانتمائه للأهلي والزمالك، وحين جاءت الكرة الأوربية ضيفة على اللقاء قالت ندى:

-        على فكرة، أنا لا أرى أن ميسي في مستوى كبير، الأفضل منه كريستيانو!

  فتقاطعها نور بتعصب:

-        وعلى أي أساس تقولين ذلك؟!

-        إن رونالدو أطول وأوسم بكثير!

  ويقهقه الشباب وهم يتشنجون من فرط الضحك، يطلق إسماعيل نداء المطبخ فيُزجر فورا، ورفيق يبحث عما يمكن أن يقوله حتى الآن حتى انعزل عن الضحك بحثا عبثا.

  لم يكن رفيق المسكين يعرف ما يجب أن يقول ولعل تفكيره في ذلك الأمر هو الذي جعله يعجز عن الحديث، ولكن ما جعل نفسه تهون عليه بشكل كبير عدم حديث أحدهم معه طوال كل ذلك الوقت حتى انكسار الشمس؛ فهو ليس على علاقة عميقة بأحدٍ، تلك الخاطرة أشعلت نارا بداخله وتفجرت به شظايا كثيرة رغم الإنكسار جعلت جسده يصل للغليان، وشعر بصفير يصم أذنيه لحظات والدم يحتل رأسه فيّاضا وللحظة شعر أنه ليس موجودا وفيها كاد يفقد أعصابه ويتحدث إلا أنه أحجم عن ذلك.

  عزم العزم وأصر إصرارا وهم بالحديث لكن بعد الحديث القائم تمسكا بآداب الحديث، ولكن حين انتهى الحديث رأى أن ندى تهم بالرحيل وبالتالي فأحمد سيوصلها وعلى حين غرة انفض المجلس من حوله ودفع كل حسابه وحيوا بعضهم وظل رفيق جالس بعد رحيلهم.

  وقت انصرافهم هدأت روح رفيق التي كانت ثائرة وأدركها السلام طرديا مع انصراف آثار جلبتهم وعزوتهم، فارتسمت على ثغر رفيق بسمة وفرد ظهره بعد الانحناء طوال وجودهم وتحرشت به النسائم تعزيه وتونسه، وجد رفيق في وحدته صمتا جميلا يعطي معنى لكل شيء أكثر من الكلام، وفي قرارة نفسه أيقن كما كل مرة أنه لا بأس بالصمت.

مينا وجدي غطاس.
Artwork: Eric Lacombe "The Weight of Silence"

Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟