الطريق
الطريق قسمان، وطريقهم الأيسر وكان من أسفلت ممتلئ بالحصى والحشرات، والمشاة كذلك: قسم كثير العدد ماشٍ، والآخر أقل عددا منه محمول ومضموم للصدور.
من تلك الأجسام المضمومة كان آدم البارحة، أما اليوم وقد نضج جسده فتوة فقد أنزله أبواه الحفاة على الأرض، ولم يكن آدم قد رأى طوال حياته القصيرة سوى صدر أمه وأبيه، لذلك حينما نزل للأرض استغرب ملمس الأرض القاسية وأحس بيدي أبواه تجره جرا يكاد يفصل كتفيه عن جسده، فتألم آدم لكنه لم يبح.
كانت الأجسام حول آدم طويلة جدا حيث لم يكن باستطاعته رؤية لا وجوههم ولا ما هو فوقهم، كما لو كان بناية قصيرة محاطة بناطحات سحاب.
لم يعد آدم يستطيع المشي أكثر من ذلك فعضلات قدميه ليست قوية، فتذمر، ثم سمع صوت والديه ناهيا يشوبه قدر من الحنية يجعل الآذان تطيع:
- لا تقدر يا بني، ولا نقدر نحن أيضا.
- لماذا؟
- إن الطريق طويل جدا يا بني، وإننا نرى ما لا تراه، ثم إنه كيف سينظر لك المحيطون، إن بعيونهم شعاع حارق ولا يكترثون لأمر الساقطون فيدهسوهم.
صمت آدم مطيعا مغلوبا على أمره، ورويدا رويدا بدأ يأخذ لون المحيطين به وهو الرمادي.
في أثناء المشي كان يتساءل عما إذا كان هناك طريق ثانٍ لكنه كان يخاف نظراتهم الحارقة، وخاف السؤال عن الهدف حتى لا يتعطل فيترك، وكثيرا ما حاول رفع رقبته قدر المستطاع لرؤية الصدر الذي ضمه أو الأعين لكنه لم يستطع.
نظر آدم ليديه فوجدهما بعدما كانتا دمويتين أصبحتا باردتين شحيحتين الحياة، فذعر ذعرا رهيب وصرخ وأبى الإكمال لكن اليدين سحباه بقوة فاقت تحمله وسمع الصوت مهددا:
- اسمع، لا حياة إلا ذلك الطريق الذي نسير فيه، بحياة الآلهة عليك النضج، اصمد قدر ما استطعت حتى تكن مثلنا كلنا بل تقود الطريق.
- أنا أتألم!
- آهٍ منك يا شقي، ما هذا التجديف؟ إن ذلك يسمى متعة الجهاد للوصول، أ نار تريد أم العلى؟
لم يلحق آدم أن يرد حتى سُحب تلقائيا كأنما الرد واحد.
تغاضى آدم النظر ليديه اللتين فقدتا الحياة رغم أنه لم يلاحظ بعد ما حل بقدميه، لكن ذلك لم يستمر حيث أصبحت قدماه مشققتين تنزفان بالدماء نزيفا، ورأى دماءه تُداس من قبل الآخرين دون مراعاة لمعاناته.
حينما بكى آدم سمع صوت والديه واعظا " تحمل، تعود، استمر."
أخذ يضغط على نفسه ويشد من أزره لعله يستطيع أن يكون مثلهم حقا، وجعل يمشي ويمشي ودماءه تُداس وتُزرف هي ودموعه حتى ينضج النضج المطلوب، ولكم تمنى الوقوف.
في وسط تلك الدموع والدماء التي يضحي بها، فقد آدم القدرة على المشي حيث إن قدميه قد تيبسا، وأخذ يصرخ طالبا النجدة والمغفرة للشكوى، وحاول كتم صراخه قدر المستطاع حتى لا ينظر له أحد ليحرقه، ثم فجأة شعر بأن والديه لم يعدا موجودان بجواره فسقط أرضا مدركا النازلة.
وضع يديه على رأسه حمايةً مستسلما للمكتوب لكنه لم يشعر بشيء، وأدرك بعد وهلة أن الأجسام كلها تعبر من خلاله أطيافا فاستعجب، ثم أتاه فضولٌ وجهه ليمين الطريق ليرى أي شيء، واستمر آدم يتجه نحو اليمين بسهولة غير متوقعة ولا مقنعة، حتى وجد نفسه خارج الطريق القاسية وابتعد لمسافة يستطيع من خلالها رؤية الأجسام بأكملها.
رآها مغشية العيون لا تبصر وإنما تتكئ بهامتها كل على ظهر الذي أمامه، أشاح بوجهه للناحية الأخرى فوجد طريقا مزدهرا تزينه الورود وممشاه عشب، فاتجه إليه يسلكه.
سلك آدم طريقه وحيدا لكن قدميه لم تتشقق بعد ذلك ولم تؤلمه، والأهم أنه لم يحرق أو يدهس ورجعت لبشرته الحيوية المفقودة، واستمر يمشي يأكل ما يطيب وتشتهيه النفس ويشاهد الأجسام الأخرى، حتى وجد منعطفا لطريقه يمينا يفوق طريقه بهاءا بينما الطريق الأيسر كان ينتهي عند حافة بعدها هاوية سلابة الأرواح، وتسير كل الأجسام بطريقة جنونية كلما اقتربوا منها ومن يقعون يصرخون بلذة الوصول ولا يسمع لهم صوت آخر بعدها.
مينا وجدي غطاس.
رائعة ، و فيها إسقاطات كثيرة على بشر و دول و تاريخ
ReplyDeleteشكرا جدا أستاذي، مبسوط جدا إنها عجبت حضرتك.
Delete