شاعر يكره شعره

  أثناء الليل، وفي أرض كاحلة لا ينيرها سوى نجوم قليلة، اقترب فتى صغير الحجم حاف القدمين من قرية تملأها الأفراح تتوهج نيرانها من بعيد، واحتاج الفتى الراحة بعدما قضى الرحلة كلها على قدميه من قرية أخرى لم يدم البقاء بها سوى ليلة.

  دخل بوابة القرية مستجمعا شجاعته لعلها تختلف عن قريته، وتكون تلك التي تفتح له أبواب الوجود فيضرب جذوره بها لو قبلوه وعرفوه، ذلك وهو وحده بينما كان الداخلون كلهم أزواجا وجماعاتٍ، لذلك لم يلفت انتباه مندوبي النُزُل رغم توقعه حفاوة تنتظره كما الآخرين، انتظر بعض الشيء كبرياءً ثم تحرك منكس الرأس نحو مندوبٍ لم يلاحظه إلا حين رفع صوته متحدثا:

-        سلام عليك.

-        سلام أخي، كيف أخدمك؟ أتحتاج غرفة؟

-        نعم، وأيضا إنني شاعر أريد أن أعرض شيئا على الناس.

-        حسنا، أخي، اذهب مع الذاهبين نحو الميدان، هناك تجد الناس كافة وأنا سألاقيك في نهاية الليلة، لكم من الوقت تريدها؟

-        الله أعلم، دع الأمر لحال القرية.

  توجه نحو الميدان وقد وجد صعوبة لقلة حجمه وكثرة هدوءه في التمكن من الإنضمام في صف الفنانين، وقد سئل عن اسمه فنطق ب"ميم"، وعن تقدمته فقال الشعر.

  انتظر في الصف لوقت رأى فيه عجبا يكاد يألفه، فرقة من نسوة وشباب يغنون بصوت قبيح والكل يصفق بحرارة ويحفظون عنهم أغانيهم في التو، والبعض يمثل الغباء والاكتئاب مدعيا والجمع يتأثر ويشيد بهم، يطلق المهرجون بذاءة تشوبها النكات فيضحكون كالبغال، راقصات مرتديات عبايات شفافة مطرزة بوهج نجوم السماء يصفق لهم الجمع ويصفِر قبل حتى أن يبدأن، وقد أثار كل ذلك في روحه ضيقا شديدا معتادا جعله يريد الانسحاب، لكنه تراجع عن ذلك فلم يكن له من النكات أو الطباع المتفاخرة ما يجعله بارزا وسط القوم ويعبر عن وجوده سوى قلمه.

  أُعلن عن دوره واسمه وفنه فقيل القصة فاضطربت ملامحه وصحح بأنه شعرٌ إلا أن أحدا لم يهتم بذلك.

  بدأ الفتى ولم يلتفت له في البدية نفرٌ؛ فليس له جسد أو وجه يفتن النساء، ولا يرتدي من الملبس ما يلمع،  ولكنه رفع صوته قدر المستطاع وأنشد الشعر مما كتب، تحدث عن الحب فقال:

لَهِيبٌ مُهِيبٌ أصَابَ قلُبِي      ولِخَيّبَتِي المُصِيبُ لا يَدْرِي

مَال أعيُنُنَا مَرِيضَةٌ الرؤى    فعَيّنَيّ التَعِبَةُ لا تَرَى سِوَاكِي

أمَا عَيّنَاكِ بَحْر السَوَاد       تَرَيان الكُلَ وأنْتِ لا تَرِينِي

  أنشد في الفخر ناطحا برأسه السماء رغم ضعفه، وأبدع في الفرح والحزن حتى الهجاء، كلما أنشد من شعره تُطرب الفرق الجالسة أما هو فينشد الشعر وحده ولا يتحدث عنه أحد، وتصيح المجاميع المتحلقة حوله متعةً وهو يكاد يطير من شدة الفرحة لرؤية إعجابهم بشعره ثم أقلقه ذلك بعض الشيء، الفتيات يُعدن من بعده أبياته وهن يوجهن أنظارهن لصبية ولم توجه إحداهن نظرها إليه.

  فاتجه، مضطرا، لعلهم يدركون ما نزل به من نازلة ملازمة له، لقصائده عن الوحدة، فألقى بوحدته إلى الفضاء ليسمعها الكل تصرخ ووجهه تتغير ملامحه مع كل كلمة نابضة، ومجموعات الصحب جالسة كل من فيها يتحدث عن الوحدة وما لمسه منها لصحابه أما الفتى وحده في وسط الحلقة.

  وحينما فرغ الفتى من شعره قام المعلن بتحيته فقال "فلتحيو أيها الناس الكاتب الشاب .... اه ...." فغفر له نسيانه اسمه متوقعا تصفيقا حادا لما أبدعه وترنم به القوم، ولكن التصفيق كان أقل من نصف التصفيق لأنصاف المبدعين، وفاجأه ذلك فبحث عن المندوب وذهب معه للنزل، أبلغه بأنه سيرحل صباحا، وقد أمضى ليلته بالقرب من نافذة الغرفة المُشَبَرة مستندا بذقنه على يده، وغرفته هي الوحيدة التي يضعف بها النور بينما تتفجر كل الغرف المحيطة به، وهو جالس يتابع المارة بعد انتهاء السهرة والكل يمشي يترنم بأشعاره ولكن لم يذكر أحد اسمه وإن أراد أحد ذلك لم يتذكره، والفتيات ينقسمن على المهرجين والمغنيين يتمخطرن ويذبن في عشقهم.

  في الصباح، أثناء خروجه من القرية رأى كل من ترنم وتمتع أي تمتع به  وقد كادوا يمرون عبره وكأنه لم يكن رغم إنشادهم شعره معترفين بروعته وجماله في الليلة الماضية، كره الفتى شعره غيرة وقرر اعتزاله لحظة، تماما كما فعل في القرية السابقة والأسبق وبين آله نفسهم، ثم رحل عن القرية لقرية أبعد منها إلا أن بعده عن آله لم يزد عما كان عليه.

مينا وجدي غطاس.

Artwork:Adam Burke

Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟