فريد



*ملحوظة: لقد كُتِبَت تلك القصة تأثرا بقصة أنطون تشخيوف "وحشة"، وقد أثرت تلك القصة أشد تأثير فيّ لذلك أفخر بأن أكتب شيئا مشابها أو محاولا لأن يكون كذلك، وإنني أجد فيها نموذجا حقيقيا مثاليا للقصة القصيرة.
*أثناء القراءة اسمتع إلى : Balomrhea-Remembrance/ Balmorhea- The winter/ Max Richter- On the nature of daylight.



  كانت الشقة المُقَشر طلاؤها القاطن بها فريد سائق الأجرة قد ضاقت أشد ضيق به اليومين المنصرمين، ولم تكن الحال قبل اليومين مختلفة كثيرا؛ فلم يكن بالبيت إلا حس قليل وظلام كثير حتى لا تكلفه الكهرباء كثيرا، ولكنه خلالهما قد أدرك أن الشقوق في الحائط – التي كان يلاحظها من قبل – قد كثرت جدا، فلم يتحمل ذلك، فنازعته نفسه للنزول رغم أن الوقت قد تعدى السابعة وها هي الكورونا على الأبواب، خرج من الغرفة ثم الشقة التي تردد على عتبة بابها بين النزول وبين التراجع لإبلاغ من بالشقة نزوله، لكنه تذكر أنه لم يعد شخص بالشقة.

  لم يغير نزوله للشارع وركوبه سيارته شيئا، وإنما أثاره أكثر، وخلت من أي فرصة للونس؛ فالراديو غير موجود فلا يستطيع سماع شيئا يربت على قلبه بعض الشيء ولا يوجد سوى كلب هزاز رأسه طالعا لسانه باسما، لذلك طاف الشوارع بحثا عن الزبائن شبه ملاصقا للرصفان.

  بعد وقت ليس بالقصير وجد زبونته في شارع خالٍ هو مدخل لمجمع سكني، وكانت طريقتها في مضغ العلكة تشي بشقاوتها، فاستفتح فريد وانفرج قلبه قليلا، توقف مبتسما وشاور لها بالركوب بجانبه متحججا بأن هناك مشاكل في الأبواب الخلفية رغم أنه لم يكن بها شيء، فركبت تتحسب لأي إقبال منه متحفظة في جلستها.

  لم يستطع فريد كبح رغبته في مجرد الحديث، فقال لها:
-  علينا أن نأخذ الوقاية الكافية من الكورونا، أتعرفي أن الجنزبيل بالليمون يقوي المناعة؟
-        من قال لك ذلك؟
-        أمي.
-        سلامة أمك.
-        الله يرحمها.
  لم تطمئن الفتاة لحديثه ففضلت تجنبه بوضع السماعات لقطع سبل الحديث، فقبل الرفض  بامتعاض وتحسر.

  جال بالسيارة في الشوارع الرئيسية والفرعية منها التي كانت مظلمة أغلبها حتى وجد زبونا ثانيا جلس أيضا بجانبه وهو شاب ابن ناس، كما فكر فريد، "هو كذلك نعم، ليته يصغي"، فقال مبتسما:
-        أتدخن يا صاحبي؟
-        لا.
-        أحسن والله، أتعرف، أنا صار لي فوق العشر سنوات أشربها، المهلكة، ولسوء الحال أشرب "كولوباطارا".
-        صدقني ياسطى لست مهتما، سر وأنت صامت الله يرضى عنك!
-        حاضر، لكن والله يا صاحبي الواحد مثقل هذه الأيام، هل تعرف أن أمي..
-        ياسطى والنعمة لست مهتما لا بك ولا بأمك، الله! هذه قلة ذوق!
  فصمت فريد، وابتسم مداريا بانغلاق عينيه بالابتسام غرق عينيه بالدمع، وحاول أن يكتم نفسه قليلا اعتقادا منه أن ذلك سيهدئ قلبه الذي ظن دقاته الرهيبة مسموعة.

  نزل الثاني، وقد مال فريد على المِقوَد محررا دمعتين، ثم جمع همته وأكمل طوافه العَبِث بالمدينة على أمل، في أثناء ذلك أخرج محموله النوكيا ال3310 بحثا عن اسم قد يقبل حديثه لكنه لم يجد سوى أرقام شحيحة منها رقم أمه، وكانت السيارة تخنقه والسماء السوداء تكاد تنطبق عليه ولكم تمنى أن ينزل البحر السواد كما لون السماء، فبذلك يعود للظلمة التي أتى منها، لكن لم تكن له الجرأة على ذلك، شعر أن ما بتلك المدينة، تلك البلد، ذلك العالم، روح قد تتضامن معه وتضمه، وكان العرق قد طفح من على جبينه من فرط الإنفعال.

  الثالثة تابتة، هكذا فكر وقرر، ها هي أم وطفلها قد خرجت من عمارة أمام شريط الترام، "هي أم بالتأكيد ستتقبل وتفهم" هكذا صبر نفسه، ركبت بجانبه مبسملة مرددة دعاء الركوب،  فتبشر بذلك، وأخذ يداعب الطفل ويعطيه من النصائح كمًا لا ينفعه:
-     عليك يابني أن تسمع كلام أمك كل حين؛ فهي الوحيدة في الدنيا الظهير لك ولن يبقَى لك سواها، أي والله.
-        أتسمع يا ميدو ما يقوله عمو؟
-        اسمع كلامها يا بني قبل فوات الأوان والكورونا منتشرة، أتعرفي يا أبلة، أنا أمي الله يرحمها...
  ارتعبت السيدة من ذلك الفأل السيء وأخبرته بإرادتها في النزول فأنزلها، ولم يمنع أيضا دموعه من النزول، أخذ يتساءل أين دوريات الأمن لعلها تأخذه بعيدا وتريحه.

  قبل يومين ماتت أم فريد سائق الأجرة، ولم يكن فريد على الرغم من هشاشتها يتخيل أن الأجل قريب لذلك الحد، احتار في سبب الوفاة بدايةً؛ فهي لم تنزل من البيت حتى تصاب بالكورونا، ولم تشتكِ يوما له بشيء بلسانها رغم صراخ منظرها بالألم، علم فريد أن أمه ماتت بسبب فشل كلوي، ولم تكن تعبر عن ألمها لقلة المال وقِصَر اليد، ولم تكن تطلب شيئا كذلك، ولم يكن البيت به أحد قبل وفاتها إلا هما، وبعد الوفاة لم يزره مُعَزٍ وحتى في الجنازة في مدافن الصدقة لم يأتِ قريب أو عزيز لأن ليس له لا ذلك أو ذاك بل سار معه رجال في الشارع تأدية لواجب إنساني.

  أخذ فريد يحدق في الكلب الهاز رأسه على "التابلوه"، وحكى له ماحدث والدمع يفر من عينيه: أمي ماتت ولم أنقذها، وروحي انسحقت ولم ينقذها أحد، وصراخي لا يسمعه أحد، هكذا ماتت قبل يومين، وأنا بكرة مصيري الموت، ولكني أخاف الموت قبل الموت يا كلب، لكن أحدا لا يريد أن يسمع...

  رجع بيته بعد انتصاف الليل، أطفأ النور تماما فليس له فائدة، وجلس في ركن غرفته وقد شعر ازدياد الشقوق والقشور عن الصباح وعن البارحة وعن أول البارحة، ونام فريد لعله يصبح جيدا أو أنه يتحرر من جسده وتطير روحه، أو أشياء كثيرة تمناها فريد، منها الحديث، لكنه غرق في النوم، فلم يستطع إكمال أحلامه.

مينا وجدي غطاس.
Artwork by Alex Merritt.

Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟