الإنسان بين الوحدة واللا انتماء



رجوعا إلى أقدم المفاهيم التي تضمنت معنى الانسان والفرق بين جنسه وبني الأجناس الأخرى فنرى أن ما يميز الانسان بحسب تعريف الأقدمين ليس ذكاءه فحسب وإنما وصفه بالاجتماعية، وهو ما أعطاه القدرة على تكوين مجتمعات أكثر تعقيدا وأكثر دواما من أي مخلوق آخر بل إنه كان قادرا على تكوين علاقات مع المخلوقات الأخرى، ولذلك فإن فقد المرء ما يميز بني جنسه فإن ذلك ليضعه في مأزق رهيب وحالة تكاد تفنيه نفسيا إذا صح التعبير.
وهنا نتحدث بخاصة عن الوحدة حيث أنها جزء لا يتجزأ بل أساسي من كون المرء غير اجتماعي وهو بذلك يقابل في المعنى الاجتماعية، ولكن إن أردنا توضيح معنى عدم الانتماء فإنه أكثر عمومية وشمولا من الوحدة حيث أن كل الكائنات الحية أو معظمها للتدقيق تعيش في جماعات والأهم من تلك المعيشة هو الانتماء للجماعة، فإننا لو دققنا النظر لعالم الحيوان فسنجد أن غالبية الحيوانات النافقة تكون إما خرجت عن المسار المحدد للجماعة وماتت من الجوع أو تم قتلها من قبل جماعة أخرى لدى خروجها أيضا من جماعتها.
بالتالي فإن النتائج الخاصة أو العامة هنا هو الخطر، أي أن كلما كان الانسان في وحدة خاصة جعله في مهب الريح وكلما كان الانسان في حالة من عدم الانتماء فهو يضل الطريق وفي النهاية يصل لنفس الحتف.
ولذلك فإن أنظارنا وعقولنا تتجه نحو السؤال الأكثر الأهمية ألا وهو ماهية الوحدة واللا إنتماء، وكيف يقع الانسان بين رحاهما، وإننا لنُظهر الآن جوانب كل منهما وأوضاعه وحالاته.
بداية بالوحدة، فنرى أنها شعور المرء بعدم المؤانسة في حالات متعددة سواء كان وحيدا بالفعل أو في وسط جماعة لا يشعر فيها بالألفة أو القبول وعدم الانتماء، فكأنما تضع زهرة في وسط الصخور، إن المعضلة هنا لا تتوقف على كون الزهرة في بيئة غير بيئتها الأصلية وإنما عدم قدرتها على بيان جوانب خصائصها بصورة واضحة، أي أنها لا تستطيع التكيف مع الظروف المحيطة بها، بذلك فإن طبقنا ذلك المثال على الحياة الإنسانية فسنجد أن المرء يشعر بالوحدة حينما لا يستطيع أن يشعر أنه قادر على إظهار قدراته أو إبداء أرائه الشخصية ومن هنا نرى أنه ليس بالضرورة أن يكون في مجتمع غير الذي يألفه حتى يشعر بالوحدة بل أن يكون في أي مجتمع لا يقدر أن يخرج فيه طاقاته ولكن قولنا ذلك لا ينفي أن تواجده في جماعة غريبة عنه قد لا يشعره بالوحدة والوحشة، وبالتالي فإن الوحدة قد تكون في بعض الأحيان، على حسب الحالات، نتاج لعدم الانتماء، حيث إنه ليس سببها الوحيد، ولكنه إن حدث يجب أن تكون إحدى نتائجه الوحدة، وذلك لا يتنافى مع قولنا السابق بأنها ليست نتيجة وحيدة لعدم الانتماء.
أما عن عدم الانتماء، فإنه كما ذكرنا سلفا أعم وأشمل من الوحدة في مسبباتها ونتائجها حيث أنها وجود المرء أو الكائن في وسط جماعة لا يستطيع أن يكوّن فيها علاقات أو يشعر بأنه جزء منها نتيجة للاختلاف الشاسع الذي يصل للتضاد غير القابل للقبول أو لعدم قبول الجماعة له والسماح له بأن يثبت حضوره وكيانه، مما جعله يشعر بعدم الوجود، ومن أهم الشروط التي يحدث فيها الشعور باللا انتماء هو كون المرء يعاني من تلك الحالات التي ذكرناها في مختلف المجتمعات والمجالات التي يحضرها كما  المجال الدراسي والديني والأسري بل والسياسي والثقافي، فعدم انتماء المرء لجماعة لا يعني بالضرورة معاناته من ذلك، فإن مجتمعات أخرى قد تعوّض النقص الذي يحدث جراء ذلك، مثلا فإننا إن طرحنا مثالا بالطفل الذي لا ينتمي لجماعته الدراسية يمكن أن يشعر بوجوده وانتمائه في جماعته الأسرية أو الدينية، وبذلك فإننا يجب أن نربط هنا بين الانتماء والوجود الشخصي حيث أن الأول مسبب رئيسي للشعور بالثاني، وزوال الأول يعني بقطعية زوال الثاني.
وإننا من هنا ننطلق لنقطة أبعد ألا وهي نتائج لعدم الانتماء – التي، بكل صراحة، بادية واضحة في كل شبر حولنا في العالم إلا أننا نستعميها أو ننكرها أو نذكرها كشيء طبيعي حتى نعوض الندوب التي لدينا – ومنها وأبرزها هو شعور الكائن بالوحدة مما يقضي عليه، وأمر آخر هو تكوين شخصية ضد مجتمعية ولعل هوليوود قد أبدعت في بيان ذلك الأمر في رسم شخصية "الجوكر" التي تعرضت  لرفض اجتماعي ونبذ وإنكار وجود لها شديد، وإنه لمن الجدير بالذكر أن محبتنا لتلك الشخصية "الوهمية" هو أننا نرى فيها وفي أفعالها ما لا نقدر أن نعمله كردة فعل لمواقف نتعرض لها في حياتنا اليومية من مضايقات ونبذ، أي بمعنى أن إعجابنا بتلك الشخصية ما هو إلا رؤيتنا فيها لما لم نستطع أن نخرجه على الملأ، وبذلك يجب أن نذكر أن في ذلك بعض النفاق حيث أننا إن وجدنا شخصية كتلك في حياتنا الواقعية فإننا نتجاهلها ونبغضها أشد البغض ذاكرين جوانبها المظلمة.
وإن الأمر قد يصل لما هو أبعد من ذلك بكثير حيث إن في الحرب الباردة قد حُكيَ عن  جاسوس قد غير توجهه أي خان بلاده لصالح البلد الأخرى بشرط واحد وهو التقدير، وبذلك فإن حركات الهجرة بنوعيها أو كراهية الوطن أو الخيانة السياسية قد تنبع من سبب كذلك، بل أن في بعض حالات تغيير الأديان و المعتقدات يكون الأمر بسبب عدم شعور الفرد بانتماءه لجماعته الدينية مما يوحي له ببطول المعتقد أو بأنه لا ينتمي لذلك المعتقد من الأساس وينحرف البعض لدرجة الإنكار الكامل لوجود إله يحكم ويتحكم في  الكون.
ما يزيد الطين بلة هو أن المجتمعات التي سبق وطردتنا حينما ترى التغيرات بادية على ملامحنا النفسية والسلوكية سوف تقوم بإلقاء اللوم علينا وذاكرة صحة استبعادنا وتهميشها لنا.
مما يجعل سائلا يسأل عن موقع قدرة الإنسان بين الوحدة وعدم الانتماء وكيف يعبر لبر الأمان منهما، والحق الحق أقول لكم أن الإنسان يهرب ولا ينتصر عليهما، فإننا وإن نظرنا للوحدة والحيل التي يستخدمها المرء للتغلب على الشعور بها قد يكون الإنتحار الذي يعني أن المرء لن يشعر به أبدا لأنه لن يكن موجودا أو يشعر بأي شيء وهو بذلك نوع من الهروب، وإن نوعا آخرا من الهروب وهو عكس الأول وهو اعتقاد المرء بوجود إله وشدة الإيمان به وتكوين علاقة معه، فإننا نظرنا لصفات الله اللامتناهية فسنجد أنه كلي المعرفة والرحمة والمحبة وما إلى آخره، وتلك الكلية التي لدى الله لا توجد بأي صورة من الصور لدى المخلوقات مما يعني أن المرء يحتاج بالفعل إلى إله غير محدود حتى وإن كان غير مرئي كي يسد المرء عن طريق علاقته به نواقص لم يستطع أن يجد لها كمال في البشر مثلا فإننا إن نظرنا لشخص ينتمي لمجتمع الأسرة ثم قام بفقد شيء فشيء الأشخاص حوله سواء بالموت أو السفر أو أيا كانت الأسباب، فإنه سيقع تحت رحمة الوحشيّن ولذلك فإن اعتقاده بالله الغير محدود يغنيه عن تلك الحاجات التي يعاني إن جف نبعها، وهذا أمر حق واقع ملموس، فإن النساك أمثلتهم كافية وتعبد الأنبياء لله وابتعادهم عن البشر لفترة طويلة دليل، بل إن البطريرك شنودة الثالث قد ذكر ذلك في إحدى قصائده بعنوان "غريبا عشت في الدنيا" : غريبا عشت في الدنيا نزيلا مثل أبائي .." وإن استخدامه  لكلمة نزيلا لهو دليل على ذلك فإن المرء ينزل بفندق يطول مجلسه فيه كما يطول ولكنه لا يمكن أن يكون وطن له.
وبالحديث عن الهروب لا يمكن أن نتغاضى عن ذكر الإدمانات والعجول المذهبة التي نسجد لها كل يوم، وإن كانت قد زادت بكم هائل في القرن الحالي والأخير ولكنها تعد وسيلة من وسائل الهروب التي يشرع بعضها المجتمع ويحرم بعضها، فإن تمسك البعض بشخصيتهم الإلكترونية قد يكون في أغلب الحالات مسببا وناتجا في آن واحد لعدم الانتماء والوحدة، أو مثل هروب المرء بالمخدرات التي ترتقي بعقل المرء للحظات إلى مجتمع معنوي أفضل مما هو فيه.
وبذلك فإن الحديث عنهما يكاد ينتهي ولكن السر في النهاية من وجهة نظرنا هو أن نعتبر أنفسنا المجتمع بنسبة متسواية من أن نعتبر نفسنا الشخص الذي يقع تحت رحمة المجتمع، أي أننا في حالة نكون ذلك الشخص وفي حالة أخرى نكون المجتمع الذي يحكم ويسبب الأذى للآخر، وبالتالي فإن رؤيتنا للأمور ورؤيتنا لموقعنا في تلك الأمور هو ما يسبب أو يتجنب حدوث مثل تلك المشاعر للشخص لأن المرء بطبيعته فعل كما  هورد فعل، فلا يجب أن يحكم جانبا على الآخر حتى لا يجعل المرء الذي أمامه جانبا واحدا أيضا، بل بترك الحرية لاختيار الجانب الذي نحب أنكونه.

**فضلا إذا أعجبتكم أي كتابة من الكتابات على المدونة فانشروها كيفما استطعتم بين أصدقائكم ليحدث بذلك انتشارا وتقديرا لمجهودنا المبذول في إخراج تلك الكتابات المنشورة هنا، والأهم من ذلك إبداء رأيكم الذي سيحدث فارقا كبيرا.
مينا وجدي غطاس.
Artwork: Evening by Ilya Glazunov,1986.

Comments

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟