في الحارة
"كَانَ
فِي الْعَالَمِ، وَبِهِ تَكَوَّنَ الْعَالَمُ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ.
وَقَدْ
جَاءَ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ لَمْ يَقْبَلُوهُ."
-إنجيل
يوحنا، الإصحاح الأول.
كانت الشمس إذا
نظرت نحو نهاية الحارة تتقاطع مع الأسفلت لتتموج الصورة بفعل الحرارة الشديدة،
ولاح في الأفق رجل في شبابه بنيانه متوسط يمشي تحت الشمس كالمخمور، مما يوضح أنه
قادم من مسافة بعيدة، اقتربت تلك النقطة السوداء من الحارة فبدت ملامحها تتحدد
شيئا فشيئا، فكان مظهر الرجل شاذا عن المعروف، فمن الذي يمشي بثيابٍ رثة كتلك التي
لا يرتديها أحد الآن؟
كان الشارع في
الحارة نصف مرصوف ولكن البنايات كانت تتوهج بالألوان من الخارج كما لو أن المرء قد
وقع في مجمع سكني للمشاهير، والسيارات تلمع لمعانا يكاد يعمي العينين وكان غريبا
كثرة تلك السيارات رغم أن الحارة صغيرة جدا، الحارة عالم داخل عالم، وشيوخ الأديان
يتوجهون دائما للساحات ليصلوا، ويعظوا، وينفذوا الأحكام أيضا، فترى الكل منتصبا في
الميادين والساحات معلنا أنه سيصلي، أو أنه سيفعل نشاطا روحيا.
دخل الشاب الحارة وبدا وجهه إذا نظرت في عينيه ثلاثينيا ولكن
لحيته تبديه أربعينيا، عيناه عميقتان كالمحيط قويتان كالرصاص، وله ذقن متناغمة
أجزاءها بشكل ملاحظ، أنفه ينساب إلى أسفل ببساطة المياه المتدفقة من شلال، و فمه
رقيق فلا يبرز خارج حدود وجهه ولا يختفي في ذقنه.
تعمق أكثر في شوارع الحارة وكانت فارغة شوارعها
عدا منطقة توجه لها عن طريق الضجة بها، فرأى فوجا من الناس يجلسون على الأرض ولا
ينبس أحدهم ببنت شفة عدا رجل دين يتوسط الجلسة وثيابه مطرزة بالأحجار الكريمة
والذهب كما قد ورثها عن الذين قبله كما يشاع، في يده ميكروفون ويتكلم بصوت قوي
وثقة جبارة، يقول:" وبذلك فمن ليس على شاكلتنا ومذهبنا من الطوائف الأخرى والأديان
فليس له كمثلنا في نعيم الله وله بئس المصير، وردا على سؤال آخر فعلينا أن نلتزم
الزهد وألا تؤثر فينا الأموال؛ الأموال تصنع الشر، ومن أراد أن يرفع روحه لله
فعليه أن يفصلها عن الدنيا، و بذلك إخواني، علينا أن نستخلص ملاحظات مما تحدثناه،
من يخطئ يجب أن يعاقب و يُحرَم، من ليس على طائفتنا وديننا فلن يخلص، ومن اغتنى لن
يعرف الله، والآن قد إنتهى الدرس."
أعطى الميكروفون
لأحد الخدام ونادى بصوت عالي:" يا إبراهيم ولا يا إبراهيم، أين السيارة يا ولا؟!"
ثم رجع وأخذ الميكروفون وقد تذكر شيئا يضيفه" ولا تنسوا أن تتبرعوا لبناء
مبنى جديد لدار العبادة فنحن بحاجة لتبرعاتكم." فخرج صوت فتى مراهق يسأل
" ولماذا لا نجلس في المبنى يا سيدنا؟" "أليس دار العبادة بيت الله
يابني؟" "نعم" "حسنا، أترضى أن يتسخ بيت الله؟" فتغيرت
ملامح الفتى وبدا التساؤل على وجهه، فحدجه الباقية بنظرة الإنجليز في القرن الثامن
عشر إذا ما تكلم إفريقي بينهم، ثم تهافتت عليه بضع نساء يطلبون منه إحضار بعض
الأدوية لهم من المدينة الأخرى فليس لهم القدرة على الذهاب هناك.
سأل الشاب رجلا في
مؤخرة الحشد كان يقفز حتى يرى ما يراه الآخرون:
-
أليس لكل شعب الحارة سيارات؟
-
تلك السيارات أيها الغريب مواتيرها متآكلة؛
فلم يستخدمها أحد منذ زمن.
-
إذن فلماذا يمتلكون سيارات إذا لم تكن لهم
حاجة بها؟
-
كيف يكون لجاري سيارة ولا أشتري لنفسي واحدة؟
يارجل كن منطقيا!
تعكر صفو الشاب
لكلام الشيخ، وفجأة اقتحمت الساحة سيارة فارهة تلمع كالمرآة تعكس وجوه الشعب
عليها، و قبل أن تطأ قدم الشيخ السيارة، حدثت بلبلة في الحشد، فجاء كهول ومعهم
فتاة وفتى، ويضربونها، فالفتى قد قبلها، "يا لها من ساقطة!"، هكذا تمتم
البعض ينما جهر بتلك الكلمات بعض آخر.
فنظر لها الشيخ واستغفر
كثيرا، ثم أمر بعقابها، فتقدم الشاب منهم، وكانت الأعين والأنظار التي انتبهت له
الآن تتابعه باستغراب فكما ذُكِر سلفا أن ثيابه رثة عكس ثياب شعب الحارة كله؛
فالكل يرتدي ثياب الموسم وآخر موضة وصيحة حتى وإن كانت غير متناغمة مع أجسامهم،
ومنعهم عنها، وقال "من كان منكم بلا خطية فليرجمها بحجر" فتقدم الشيخ
والرجال والنساء كبار السن يضربونها و يقذفونها بالحجارة و السباب، ثم التفت الشيخ
للشاب وقال له:
-
من أنت أيها الفتى؟ و لماذا جئت هنا؟
-
أنا الحق وجئت لأرشد.
-
أتظن نفسك أهلا للإرشاد يا فتى، أنا عندما
كنت في سنك كنت قد حفظت الكتاب كله!
-
الكلمة التي تُحفَظ ولا تُعَاش كالريح التي
تمر ولا تترك أثرا في نفسك.
-
إذن ف.....
باغتت الشيخ سيدة
تبكي وتصرخ بأن ابنها يقف على الشرفة ويريد الانتحار وتترجى سيدها بأن يحل الشيطان
الذي لبس فلذة كبدها، فقال:" حسنا يا امرأة لدينا قديس اليوم قد أتى من بعيد
سيساعد ابنكِ." وابتسم إبتسامة خبيثة وهو ينظر بطرف عينه للشاب، فأخذه الحشد
وذهبوا به إلى الفتى.
دخل الشاب للفتى
وحده، قال له:
-
لماذا يا بني تقدم على شيء كهذا؟
-
أنا ليس لدي شيء في هذا العالم يا هذا، دعني
أنهي كل شيء، أنا لم أربح يوما شيئا من الدنيا!
-
ما يربح الإنسان إذا ربح العالم و خسر نفسه؟
-
أنا ليس لدي من يحبني يا هذا، أنت لا تفهم
شيئا!
-
الله يحبك.
-
الله!! إنه لا يراني ولا يسمعني، إنه ليس
موجود حتى!
و جاء صوت من أسفل
موجه للفتى :" ستموت كافرا يامعتوه!"
ونظر لأسفل فرأى
من يصورون بهواتفهم ويضحكون ويعلم ما سيكتبون على مواقع التواصل الإجتماعي.
-
من قال ذلك؟ الله في كل مكان ويحبك!
-
أنا لطالما صليت له وهو خذلني في كل مرة، أنا
أتألم كثيرا وهو ليس معي وعندما أخطئ لا أجد من يسمعني ولا أشعر بأي شيء، أنا
لطالما أردت أن تتغير حياتي ولكن أحدا لم يغيرها.
-
أنت تريد من الله أن يغير حياتك ولا تريد أن
تتغير أنت، أرأيت طفلا لا يحدث أبيه إلا عندما يكون في مأزق فقط؟ وكيف يجيب الأب على
أبنائه حينما يهجروه ولايحدثوه؟
-
يجب عليه أن يشعر بنا!
-
إنه لمن السهل أن تلوم الله في الحين أنه من
الصعب أن تغير من نفسك وتصلحها يا بني، وعندما تكون في أحسن حال فإنك تضعه جانبا
حتى يحدث شيء سيء، و وقتها يمكن أن تصلي له!
نكس الفتى رأسه ونزل
عن الشرفة، ثم حضنه الشاب بقوة و دفئ، ونزلا معا الشارع، تجمع الناس وخطفوه خطفا،
فحاول الشاب أن يقاوم وأن يدعوه وشأنه، ولكن الكثرة كما تعلم تغلب الشجاعة، صرخ
الشيخ في غيظ أن يعاقب ذلك الفتى و يُحرم لمدة شهر لتجرأه على إرادة الله،
"فكلنا لدينا مشاكل!" هكذا صاح.
أجهش الشاب
بالبكاء، ومضى وحده في شوارع الحارة، وبعد حين وقد رحلت الشمس عن الحارة، الحقيقة
أن تلك الحارة لم تشرق لها شمسا حقيقية منذ زمن طويل تقريبا، رأى الشاب فتى آخر
يجلس يلف الحشيش بلسانه، فجلس برفقته:
-
ماذا تفعل يابني؟
-
ألف الحشيش يا سيدي، أتريد؟
-
لا يا بني ولكن لماذا تضر بنفسك؟
-
لا أقدر على فراقه يا سيدي، وهو رزقي فأنا
أبيعه.
-
أتؤمن بالله يا بني؟
-
و أذهب لدروس الدين أيضا و لكن ما فائدة
السؤال؟
-
لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لا تقدر يا بني
أن تعطي قلبك كاملا لله وأنت مرتبط بالمادة، وناهيك عن هذا الأمر، فهذا سيأتي لك
بالمشاكل!
-
كله يا صاحبي على الله، الغد وبعد الغد ليسا
في يدي صاحبي دعها على الله.
-
أي حكيم هذا؟
-
لا إنه بابلو، والآن بعد إذنك أريد أن أكمل
عملي بضمير حتى يبارك الله في المال.
و في أثناء تجواله
رأى نوافذا شبه مفتوحة فأطل منها على الداخل، فرأى أحد أولئك الشيوخ الذين ضربوا
الفتاة وتركوا الفتى، يشاهد أفلاما إباحية، وأكثر ما لفت نظره هو أن كل بيت أطل
على داخله كان عكس خارجه، أي أن واجهات البيوت النظيفة والمبهجة والفخمة لا تتناسب
مع تصدعات البيوت من داخل وفقرها، فمحارة
الشقق من الداخل بادية أكثر من الطلاء الذي من المفترض أن يكون على الجدران، كما أن
الأراضي من البلاط الأبيض وفوقها سجاد متفرق مهترء كالخرق، بينما يجلس الناس
وينامون على الحصير المغطى بالملاءات.
استمر في المضي ولم
يفتح أحدهم بابه لينزل عنده الليلة، حتى رأى عرسا، فدخل يجلس ويريح قدميه.
كان العرس آية في
الفخامة، وتتزين وجوه النساء بالألوان والذهب بينما الرجال في بذاتهم، كانت ليلة
جميلة ونزل من الطعام ما يفتح نفس من أكل جملا، ودخل رجل الدين، فتوجه للبوفيه
وأكل حتى امتلأ بطنه ثم بعدها لم يقدر على القيام من التخمة فنزل إليه العروسان
لينالا مباركته.
في الصباح – وقد
أمضى ليله بعد العرس في الشوارع - رأى أهل العروسين يجلسون في الشارع وكأنهم لا
يملكون قرشا ينتظرون من يعطيهم صدقة!
توجه لإحدى
الأمهات وسألها ذلك التناقد فرددت:
-
يجب علينا أن نظهر في أبهى صورة، لا يصح أن
يقول الناس أن فلانة لم تستطع أن تجعل عرس ابنتها فخما.
-
ولكن بما ينفعك القول أساسا إن لم تكوني غنية؟
-
الصيت ولا الغنى يا سيدي.
توجه إلى الساحة
حيث تُعطَى الدروس، فوجد الشيخ غاضبا و يقول:" علينا بالإلتزام في المواعيد،
كيف يحدث هذا وتتأخرون دقيقة عليّ؟! إن الله لا يحب المهملين!!"
"إن الله لا
يحب المتحزلقين."
"أنت!! أنت
مرة أخرى! من أنت يا شاب؟!"
"عجبا
لاتعرفني وأنت تتحدث بالكتاب."
"هاا! أملاك
أنت؟ أم أنك المسيح؟ طب قل لي، أيأتي المسيح بثياب رثة كتلك التي ترتديها؟ أم في
سيارة فخمة وثياب تدل على بهائه اللامتناهي؟ إلا أنني يا غريب أشعر أنني رأيت شابا
مثلك في صغري المبكر."
"بالطبع لن
تعرفني وقد عماك لمعان السيارة."
"ها؟ حسنا إن
كنت أنت المسيح فارمِ نفسك من أعلى واعمل معجزة!"
" أظنك تعرف
كيف رُدَ على الشيطان إذا كنت تحفظ الكتاب."
" أتقصد أنني
شيطان ؟!! عليكم به هذا الشيطان، لعنة الله عليك!"
" إن كنت
تظنها سبة، ألم تحفظ أن من لطمك على خدك حوّل له الآخر؟"
"إرموه خارج
الحارة هذا المشعوذ، إنه ليعبث بكلام الكتب!"
أمسكوه وأبرحوه
ضربا وهم يستغفرون وفي الطريق وهم يحملونه، رأى الفتى الذي أنقذه البارحة يقف على
نفس الشرفة وعلى جسده الكثير من الضمادات، و وجده يرمي بنفسه، فصرخ وتألم وبكى
للفتى، ولكنهم لم يحفلوا به، فهم لم يحفلوا به في كل مرة يزورهم فيها، فعندما أتى
آخر مرة قد تركوا اللصوص وطردوه هو، والآن تركوا فتى قبّل فتاة وتركوا الحشاشين وطردوه
هو.
خرج الشاب، وهو
يعلم جيدا أنه عندما تحل مَظلَمةٌ بتلك الحارة سيرى أولئك الذين تجرأوا باتخاذ الأحكام
ونافقوا، يركعون ويصلون لله أن يرفع عنهم عقابه، وسيقسمون ألا يرجعوا للخطأ مرة
أخرى، ولكن عندما يتحسن حالهم، سيكونوا مثلما كان أبائهم.
تنويه: تلك القصة هي إحدى القصص التي كتبتها في عام 2018، ولذلك فهناك اختلاف بين الأسلوب حينها وبين الفترة الأخيرة، إلا أنني أضفت بعض التعديلات حتى تكون مناسبة.
مينا وجدي غطاس
Comments
Post a Comment