حل القمامة


*مستوحاه جزئيا من قصة حقيقية.

أينظرون لك يا عبدالله أم لتلك التي بين ذراعيك؟
آخ يا عبدالله لماذا نظر لك العالم مرة واحدة اليوم؟
صباح اليوم بينما كان عبدالله يُدخل مفتاحه في الباب سمع صوتا اضطربت له أحشائه حتى كاد يهز رأسه كأنه يطرد أفكارا وظنونا شريرة، حتى ما أن فتح باب شقته فوجد على الكنبة المواجهة للباب مصدر الصوت يتوسط الجلسة بينما يقع بجانبيه كفين على خدين مختلفين، أحدهما لزوجته والآخر لابنته تنظران له كأنما تستنجدان به لحل مشكلة مستحيلة عليهما، كاد شعر عبدالله أو ما تبقى منه أن يشيب على شيبته لما سببته تلك المفاجأة من خوف واضطراب له، حدق في وجهيهما ثم ألقى السلام عليهما ودخل للحمام فارا مصطنعا الطبيعة كأنها زيارة عادية من فتاة لأمها.
أثناء مكوثه في ملجأه أخذ عبدالله يزرع الحمام ذهابا وإيابا مفكرا ثم يقف هنيهة وسرعان ما يعود مرة أخرى، ما الذي أتى بها الآن؟ ثم أخرج محفظته وأحصى ما فيها من مال، نعم، مئتي جنيه ستكفيها، لكن ماذا إن كان زوجها قد طردها مرة أخرى؟ اللعنة على أبوكن كلكن، نسوان لا تأتي إلا بالفقر!
ومن كثرة حركته كاد أن يتعثر في دواسة الحمام ويسقط على حافة البانيو، قام بشد السيفون حتى يوحي لهما أنه كان بالفعل يقضي حاجته، ثم توقف أمام الباب لحظة أخذ فيها نفسه وقلقه يشده للوراء كأنما يريده أن يدخل في البلاعة ويختفي من على تلك الأرض.
خرج الرجل من مخبأه ليواجه أشد أنواع الأسود فتكا وهو يصطنع عدم مبالاة بحضور ابنته كأنه المعتاد منها، وجلس على فوتيه وقد حاول أن يبدو طبيعيا حتى أراح قدمه وظهره حتى شعر بألم في أسفل ظهره جعله يعتدل في جلسته، في تلك الأثناء شعر بأن كل شيء يحدق به وينتظر منه شيئا، فما فعله كان المبادرة بسؤال ابنته عن حالها، ما أن فعل حتى جعلت تبكي كما تبكي أمها بكاءا معيزيا، فتعجب عبدالله ثم حاصر تعجبه ذلك محدثا نفسه "نسوان يا عبده، طبيعتهم هكذا!"، ثم وجد زوجته تفتتح الحديث بعدما كانت زامة شفتيها كيدا ورافعة حاجبها:
-        ابن الكلب زوج بنتك، اليوم تعاركوا مع بعضهما ولطشها على وجهها وقال لها أنتِ وابنتكِ...
ما صدر عن زوجته بعد ذلك لم يعره اهتماما كأنما أصبح أصما، جعل يومئ برأسه إيحاءا لها بالسمع بينما كان يفكر، هو يعرف طبع زوجته وكذلك ابنته التي تشبهها لحد كبير، إلا أن الأخيرة لا تحتمل مسؤولية أبدا، إذن فما حدث اليوم يعني نهاية شبه أكيدة، ثم فجأة قطع كلام الزوجة:
-        المطلوب؟
ارتبكت زوجته وابنته كذلك ونظرا لبعضهما، آه يا بقر، إذن إنكما طبختما شيئا تريدان من عبده أن يتناوله وحده، ثم وفي حركة متناغمة نظرتا دون كلمة لعبدالله ثم للرضيعة، لم يصدق عبدالله ما تبادر لخاطره في هذا الحين، ما معنى تلك النظرة؟
-        ماذا تردن؟
-        أنا لا أطيق شيئا من رائحته يا أبي، ولن أقدر أن أتحمل تلك المسؤولية وحدي، لازلت صغيرة وشابة!
-        كيف تقولين ذلك يابنة الكلاب أنتِ؟
وقد تقدم برأسه للأمام صوبها وقد احمر وجهه حين تفوه  بذلك إلا أن نظرة زوجته له جعلته يتراجع للوراء مرة أخرى.
استمر الجدل كثيرا إلا أن في النهاية كانت الغلبة لهما، ولكن عبدالله لم يدر ما يفعل، من ذاك الذي يفرط في ضناه؟ وكانت ابنته بعدما أخذت القرار قد قامت ودخلت الغرفة لأن اليوم أرهقها، فجن جنون عبدالله إلا أن ذلك الجنون قد زاد حينما قالت له زوجته "يالا تصرف عقبال ما أحضر الغذاء"، كان قلبه في ذلك الوقت يكاد ينفجر، فما كان يسمع بحكايات مثل تلك إلا في التلفاز وما كان ليصدقها، الآن يعيشها!
أخذ الرضيعة بين ذراعيه وهي نائمة وخرج من الشقة وفي حركة متعمدة هبد باب الشقة بقوة إلا أن سبة زوجته قد لحقت به من المطبخ فأسرع الخطوات ظنا منه أنها ستلحق به.
نزل الشارع والوقت ظهر تقريبا، وفي كل شارع يمر به أو يدخله ينظر حوله ليتأكد أن ما من معارف بذاك الشارع، وإن وجد فما كان وإلا يلف بسرعة ويخفض رأسه ويفر سريعا من ذلك الشارع.
استمر الحال على ذلك لبضع ساعات جعلت الليل يتربع الكون من حوله، ثم فكر عبده للحظة، ربما مرور الساعات يلين قلب زوجته وابنته الشريرتين، فسارع بمكالمة زوجته واقترح عليه:
-        يا ولية أقول لكِ ضناها؟! أستتخلى عن ضناها؟ وحتى أنتِ من المفترض أن تعقليها، أفليس أعز الولد...
-        اسمع يا عبدالله، من الآخر البنت لن تستطع أن تتحمل مسؤليتها، فالمستقبل أمامها وسنزوجها سيد سيد ابن الكلب ذاك، أتريد أن تعطل مستقبلها؟!
أغلقت في وجهه الخط، واحتار مرة أخرى، وصار يجول ويجول وفي كل شارع يرى مقلب قمامة، يطرد الشر عن عقله، وينظر إلى الرضيعة ويحدث نفسه "يا ليتك لم تأتِ للعالم الوسخ الذي نحن فيه.." ثم يعزم أن يستمر في مشيه حتى يجد حلا.
أنهكته قدماه بعد ساعتين أخرتين وكذلك عقله ونفسه، وقد كاد  ينفجر عقله، فالشياطين لا تكف عن الزن في عقله حتى طفح كيله، وجاءت لزهنه أفكار تبرهن الفعل الذي تدفعه لعمله، فليس هو صاحب الفكرة! ماذا يمكنه أن يفعل أمام زوجته الشرانية وابنتها، ثم تذكر كيف ضربه من قبل إخوتها حتى دمي وجهه عن آخره.
استهدى بربه، ثم جعل يبحث عن مقلب قمامة مناسب، فذلك الحل وليس هناك آخر، ثم في أثناء بحثه في لحظة نظر للسماء، لا نجوم اليوم، ولا القمر بادٍ، كيف لك يا عبدالله فعل ذلك، هكذا جاءه صوت نفسه، فوقف وحدق طويلا في الرضيعة، ثم فكر، حتى الرضيعة لم تصدر ضجيجا منذ أن نزل بها، أستتخلى عنها يا عبدالله كالآخرين؟
انمحت تلك الأفكار كلها حينما رأى مقلب قمامة مناسب، بجانب محل جزارة، نعم لن يلاحظ أحدهم وجودها، بل لن يلاحظني أحد لأني سأنسل فيما بينهم، فتوقف وأخذ يدرك الموقف بعينيه التي كادتا تدمعان من الإرهاق، اقترب من محل الجزارة وسأل البائع على أسعار اللحم اليوم حتى يبدو طبيعيا، لكنه حالما صار في وسط الناس شعر أن الكل يشعر بارتباكه وأن الكل ينظر له، آخ يا عبدالله لماذا نظر لك العالم مرة واحدة اليوم؟
تراجع بسرعة ووقف على الناحية الأخرى من الشارع، وجعل يحوم حول محيط المحل، وذلك هو الذي جعل الناس تنتبه لوجوده الآن، فإن أحدا لم يهتم له ولا لرضيعته في البداية، فشعر عبدالله أن اللحظة قد حانت، وأخذ يقترب من محل الجزارة من  الناحية اليسرى وهي موقع القمامة، ولكن قبل وصوله – تلك المرة الخامسة مثلا التي يقترب من المحل فيها – جاءت امرأة قصيرة في الأربعين تقريبا وسألته بعينين ملحتين على كشفه أمام نفسه كأنما تقولان أنا أعرف ما تريد أن تفعل، ومن خلفها اقترب شاب لا يشبهها وكأنما يأمنها منه:
-        مالك يا حاج، أتريد الوصول لمكان ما، أم أن شيئا قد ضاع منك؟
-        إيه؟
تلعثم وبرقت عيناه بريقا عنيفا وقد تعرقت فروة رأسه حتى شعر أن قطرات من العرق ستسيل على جبهته لتفضحه، فسرعان ما مسح جبهته مصطنعا حيرة ورد:
-        أنا أبحث فقط عن صيدلية تبيع لبنا معينا لحفيدتي.
-        هناك صيدلية في آخر الشارع يمينا.
-        شكرا لكِ يابنتي.
اتجه حيث قالت فعلا وابتعد عن مقلب القمامة، وهو يكاد ينفجر من البكاء الذي كتمه بداخله، وحدق طويلا بالرضيعة، ولعن أمها لأم أمها والعالم ونفسه، وبعد وقت ليس بالطويل هدأ أخيرا وبأنفاسٍ مرتاحة أخرج محموله وفتحه من الخلف، أخرج الخط وألقاه بعيدا عنه، وبهدوء شديد قبَّل جبين الرضيعة وهو واقف في منتصف الرصيف، لا يأبه بأي شيء آخر في الكون كأنما هما نجمان في الفضاء بحاله وليس بنجوم أخرى تدور في فلكهما، ثم نظر أمامه وعهد لنفسه أن يمشي طالما يستطيع دون رجعة، لعل اليوم هو ولادته الجديدة، ومن لحظتها صار يمشي ويمشي حتى اهترأ حذاءه ويتوقف كلما أمكن ويشتري بكل ما معه ما يمكن أن يغذي الرضيعة، يمشي ويمشي كأنه غريب عن ذلك العالم، غير آبه لمن ينظر له ولا لمن أو ما ينتظره.

مينا وجدي غطاس.

Comments

  1. Every time I imagine how can you regenerate your ideas and every time you came out if the blue by an amazing idea I could that you are really talented ❤️❤️

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

إنها السياسة.. إنه البيزنس

لماذا الأسوار ذات أهمية؟

لماذا سيشعر ابني بالوحدة؟