في الخندق
سوريا.. وقت
المغرب..
كانت خلود تمشي و تَجُر أمامها عربة بها طفلتها بين
أطلال ما تبقى من سوريا ، الشمس وراءها و الخراب يمتد أمامها على ناحيتي الطريق ، خلود تمشي منذ
زمن و ابنتها لا تصدر صوتا ، خلود جائعة و لكنها تستمر في المضي قدما ، خلود ضئيلة
الجسد لدرجة تجعلك لا تتوقع أنها قد تمر بما مرت به أو حتى أنها قد تمشي الصباح
كله تحت تلك الشمس ، خلود وحيدة لا خليل لها و لكنها تفرغ ما في قلبها لفلذة كبدها
، تدخل هنا و تخرج من هنا ، تستكن في ضِل هذا الحائط إذا أتعبتها الشمس أو تنام
تحت هذا السقف إذا نعست و حل الليل ، خلود تعلم الكثير من الحكايات، فكل بيت تدخله
ترى حكايته تُعرض في خيالها ، كيف بدأ ، من ضحك فيه و من بكى ، من وُلد ففرح به آل
البيت و من مات فنزفت عيونهم دمعا لفراقه لهم و غيبته التي ستطول عنهم ، و كيف
إنتهى.
أُرهقت خلود ، و قد ذهبت الشمس للنوم ، هكذا تقول
لابنتها عندما تغرب الشمس، فبحثت عن مكان تستقر فيه الليلة فقط ، افترشت الأرض و
ابنتها في العربة لا تتحرك مهما حدث.
كان المكان يوحي بأن جنودا مكثوا هنا بعض الوقت ثم رحلوا
، و قد يكونوا ماتوا فيه ، و ما الجديد فالكل يموت الآن ، الحائط عليه رسم طفل ،
فتاة مرسومة و في يدها أمها ، فتأملت خلود المشهد ثم لمست الرسمة بيدها و ابتسمت
ثم أغلقت عينيها ، فتحركت الفتاة و توهجت في العتمة وراء جفونها ، فرأت في البدء
مراحل تشكيل تلك الفتاة على الحائط ، ثم تكونت الفتاة بالكامل ، فرأتها تتحرك و
تجري و في يدها أمها تجري معها تحملها و تقبلها ، ثم انقطعت الرؤية ، صوت دوي
إنفجار ليس ببعيد ، فانمحت الإبتسامة على الثغر و ارتسم ألم و خوف واضح.
بحثت خلود عن شيء، أي شيء تعرف به حكاية من كان هنا في
آخر مرة ، عبثت في كل ثغرة موجودة ، حتى وجدت ورقة مطوية يغطيها تراب كثيف.
فتحت الورقة و بدأت بالقراءة :
" لم أرد أن أذهب
للحرب ، لم يرد أحد منا ذلك ، أمي أتسمعيني ؟ لا يهم ؛ فأنت لم تعدي هنا ، أنا لا
أشعر بشيء ، أنا مت ، فالمرء هنا إن لم يمت من رصاصة يموت من كثرة الموت الذي يراه
، و لماذا أحيا بعد موتكِ يا أمي ؟ عندما كنت صغي ...."
لين ،
بنت يا لين ، اصغِ جيدا ، تلك الورقة كتبها جندي يا بنيَّتي ، سأقرأها لكِ يا لين ،
اصغِ جيدا.
فتناست
خلود الجوع و الإرهاق و قرأت الورقة و هي تغلق عينيها بين كل لحظة و الأخرى و
تتخيل أين كان يجلس الجندي و من كان معه.
"...
عندما كنت صغيرا كان الكهول يقولون لنا أننا لن نرى أياما في مثل جمال و خير أيام
شبابهم ، و لكن ماذا سأقول أنا لأبنائي و أحفادي ، كيف لي أن أنجب و أنتِ لستِ
بجانبي يا أمي ؟
يا أمي ،
في الحرب كل شيء يتساقط، البنايات و الرجال ، حتى أنني صرت لا أفرق بين إنسان و
جماد ، حتى خالد ، خالد يا أمي الذي لديه اللحية التي تقولي عليه شيخ ، صار يشك يا
أمي ، الحرب غيرتنا كثيرا.
البعض
هنا يريد و يحلم بالعودة من أجل حبيبته التي طال صبره و تشوق لرؤيتها و سيتزوجها
ما أن يرجع و ينجب يزيد و شروق و أحلام كثيرة يا أمي، كيف لهم أن يحلموا في المكان
الذي نحن فيه يا أمي، أين سيتزوجوا بالله عليهم ؟ و من سيتزوجوا إن كان الكل قد
قُتِل هنا، و كيف سينجبون أطفالا في هذه الأرض اليباب؟ أنا حلمي قُتِل منذ زمن،
فأنا لست كأولئك الذين يريدون العودة من أجل حبيباتهم، فأنتِ يا أمي حبيبتي ، و
حبيبتي الآن عند الله..
صحيح ،
سوريا كلها عند الله."
يا لين ،
بنت يا لين ، الجندي فقد أمه ، لتتعلمي أنني لن أدوم لكِ طويلا ، اكبري يا لين، اكبري
و ساعدي نفسكِ يا ابنتي ، بالطبع ستكبرين و تصبحين طبيبة حتى تعالجيني أليس كذلك ؟
لا ، أفضل الموت على اليوم الذي أكون عبئا فيه عليكي.
"أنا
لا أعلم لمن أحارب و من أحارب ، فأنا أحارب لأنني أحارب لله و الوطن ، و الذي
قتلته البارحة كان يقاتل من أجل الله و الوطن ، كلنا نحارب من أجل الله و الوطن ،
نقتل بعضنا من أجل الله و الوطن ، و لكن أين الله و الوطن من الذي يحدث ؟
و لماذا
نتقاتل نحن ؟ لماذا لا ينزل أولئك القادة و الرؤساء إلى ميدان الحرب ؟ و في
النهاية سنموت نحن و سيأتي أحدهم يحكم البلاد و لن يصبح حالها أفضل من ذي قبل !
أرى
أناسا يأتون يحملون الكاميرات و يصوروننا، كل بعدسته و بزاويته يا أمي، ستنزل
صورتي في صحيفة و مكتوب فيها سفاح أو قاتل و في صحيفة أخرى سأكون مدافع عن الوطن ،
نحن كالحيوانات يا أمي يشاهدنا العالم و كل يحكم علينا دون أن يأتي و يقف بجانبنا
!
الرجال
صارت تبكي يا أمي ، و أنا جننت هكذا يقولون لي ؛ فأنا أخرج أمام وابل رصاص دون
ساتر ، يقولون : " جن خالد يا شباب ، لا يخاف الموت الفاجر!" ثم يضحكون ،
لماذا يضحكون هم أنني لا أخاف الموت و أبكي أنا لأني لا أموت ؟
ماذا ارتكب
جيلنا من معصية يعاقبنا الله عليها هكذا يا أمي؟
و لماذا
إن رفضت قتل من كان في مواجهتي صرت خائنا خسيسا ؟ أاصبح القتل علامة على الوفاء في
أيامنا؟"
أسمعتي
يا لين ؟ أسمعتي يا بنيتي ، الجندي جن ، بالتأكيد لم يكن يسمع كلام أمه يا لين
فغضبت عليه ، اطعيني يا بنيتي حتى لا أغضب عليكِ.
و بطريقة
أو بأخرى قد تحررت دموع خلود من أسرها الذي دام لسنين عدة ، فهي قد رأت ما قد رآه
ذاك الجندي أو أبشع ، فهي في النهاية امرأة شابة ، رأت الحبيب يلفظ النفس الأخير و
النساء يبكين على جثث أبنائهن ، رأت الغرفة التي كانت قصرها في يوم من الأيام و
ملاذ لها و قد صارت خرابا ، رأت الكثير ...
الإضاءة
بدأت تخفت فاتجهت نحو الجانب المفتوح من المنزل أو بقاياه بمعنى أدق حتى ترى
الكتابة بنور القمر.
"
أنا أتذكر عندما كنت صغيرا و أصرخ في وجه أمي و أقول لها دعيني أواجه الحياة أنا
كبير الآن ، أما الآن فأنا لا أريد الحياة ولا مواجهتها و أريد أن أرجع لحضن أمي.
أنا كنت
ذاك الطفل و المراهق و الشاب الذي ما أن ينام حتى يرى أحلاما أما الآن فلا أرى سوى
السواد خلف جفناي، السواد في عيناي و صوت
القصف في أذناي."
أسمعتي
يا لين ؟ رجل جندي يريد الرجوع لحضن أمه ، لن تجدِ في الحياة مثل حضن أمكِ.
"يا
أمي إما أن تأتيني رصاصة ترسلني إليكِ أو سأرسل نفسي لكِ بيدي ، أنا سأهلك لا
محالة ، فأنا قتلت رجلا يحارب من أجل الله و الوطن ، و غدا سأقتُل من أجل الله و
الوطن ، و سيأتي رجل يقتلني من أجل الله و الوطن.
لما
قالوا لنا في المدارس أن غدا أفضل ؟ لماذا كذبوا علينا و نحن صغار ؟
و..."
انتهى
المكتوب لكن الحكاية لم تكن قد انتهت ، هناك من أوقفه ، قد قُتِل بالتأكيد ،
فالمكان مُدَمَّر قليلا ، بكت خلود ، احتضنت الورقة و كأنها من ريحة حبيب ، صرخت
خلود ، انكمشت خلود ، انقطع نفس خلود ، قالت "نامي يا لين ، نامي يا
بنيتي" ، ثم أسندت رأسها إلى بقايا الحائط خلفها ، و أغلقت عينيها.
عندما
فتحت عينيها كانت الشمس قد عادت ، رجل يحركها حتى تستفيق من نومها ، بذقن و يرتدي
وشاح و سترة مضادة للرصاص و في يده بندقية ، ففزعت و قامت نحو لين ، و قد أخذها
الجنود الذي كان منظرهم لا يختلف عنه إختلافا كبيرا ، فصرخت و ضربتهم و لكن ليس لامرأة
هزيلة أن تقاوم حفنة من رجال أقوياء فجرُّوها إلى سيارتهم ، و في طريقهم للسيارة
قال الرجل في اللاسلكي : " وجدنا امرأة حية و جثة طفلة متعفنة معها.."
مينا وجدي غطاس.
رائعة يا مينا
ReplyDeleteاستمر
شكرا جدا يا أستاذي
Delete