إنتحار آدم
ارتفع هدير لمحرك
رويدا رويدا بإيقاع منتظم نسبيا , توهجت عيناه لمعانا و بريقا , فتح فاه , لم يصدق
, لم يعِ كم إنجازه , مشدوها مسحوبا في أفق الإنبهار الرهيب , توقف الزمن و امتدت
أبعاد الغرفة الكبيرة , إرتفع ضغط الدم بفعل الأدرينالين المحفز , العرق بدأ ينصب
فيضانا على وجهه , كل هذا تم في ثوان عدة , كل هذا كان دون أن ينبس ببنت شفة , و اندفع
من حنجرته ذاك الصوت الأجش الذي يتميز به دائما , صائحا:
-
ميخائيل , ميخائيل , إقترب , إنها تعمل !!!
كان اسمه الحقيقي
ميخائيلوفيتش , و الآخر ميشيل بودولسكي ,
أشهر عالمان في وقتهما هذا , المائة و الخمسون بعد الألفية الثانية , أحدهما فاز
بجائزة نوبل في الفيزياء , و هو ميشيل بودولسكي , بولندي يهودي يقال أن أمه من
الشرق , أما الآخر ميخائيل فهو من روسيا ....
عدا ميخائيلوفيتش
القاعة عدوا , غير مستوعب , أحقا فعلاها ؟ أبعد كل تلك النظريات و المؤامرات التي
لطالما تكالبت عليهما, سيثبتان ما أراداه على مدار عقد ؟
بدأت الآلة بالعمل فعلا
, بعد الفشل مرارا و تكرارا , بعد ليالي, تمتد على مدار سنين عدة, من السهر و اليأس
اللحظي الذي دائما ما يلي كل إخفاقة , الآن و الآن فقط سيشربان نخب إنتصار العلم
على الجهلاء , ممن قالوا دائما أن إختراعهما ذاك مناف للعقيدة , و إن كانا من ذوي
الأديان , القليلين , بسبب انتشار نسبة الإلحاد نسبيا بين العلماء , بسبب عظمة ما
اخترعوه فظنوا أنهم وصلوا للإنسان المتفوق الذي لطالما أشاد به نيتشه , و الآن لا توجد قوة تكافئ قوة البشر.
آلة الزمن بعد طول
إنتظار , يا له من إنجاز كبير !
لكنها فرحة لم تدم
كثيرا , فلكل إختراع تجربة ...
نظرا لبعضهما نظرة
تردد , هما أكثر من صديقين , لكن يجب أن يمر أحدهما بالتجربة و أن يكون أحدهما هنا
, لن يكون شيئا مأمونا لكن العلم أبدى من أي شيء و أغلى من كل خوف , إذن فليتطوع أحدهما
...
قرر ميخائيلوفيتش
الذهاب , القيام برحلة المخاطر و إلى ما لانهاية و ما بعدها سيطوف و يرى التاريخ بحق
..
لكن في اللحظة
التي ما لبث أن جلس في الآلة حتى إقتحم المختبر ملثمون أطلقوا النار في كل حدب و صوب
فنظر ميشيل بودولسكي نظرة كانت هي آخر نظرة ممتلئة بالحياة لصديق الكفاح الأقرب
لأخ , نظر لميخائيل و أدار الآلة لآلاف السنين للوراء , سيعود لمكان خرج منه كل شيء , سيعود للبداية ...
أجهش ميخائيلوفيتش
بالبكاء بدرجة أقوى بكثير منذ وفاة أمه , بكى و امتلأ غضبا , و توعد لهؤلاء
الملاعين , سينتقم , سينتقم من الكل و هذا أكيد و قريب ...
فجأة أضحى في ما
يشبه النفق لا أول له من آخر , تباعدت الأفق و امتد الكون أمامه، إرتجت الآلة بعنف
, كاد أن يفقد الوعي , طال عليه وقت لا يحصى , لا يعرف إن كان قد نام أم لا , الحق هو لم يكن يلاحظ شيئا , إنه أخيرا أول من
يستخدم آلة الزمن !
إنفجر نور غاشم و
قوي , و خرج من لا شئ, خرج هكذا و وُجد في الأرض الرحاب , أرض خضراء رطبة , الأرض
و السماء يبدوان أجمل كثيرا , الشمس ساطعة بأشعتها اللافحة تبرز حضورها على هذا
الكوكب , و الرياح تهب و تحرك الأعشاب برفق كما تحرك الأم ابنها؛ لكي يستيقظ , التف
ميخائيلوفيتش حوله مرارا و تكرارا و أدرك كم الدمار و الضرر الذي أحدثه البشر ,
ولك أن تتخيل أن الكوكب كان أقوى نسبيا قبل إرتطام النيزك و إنقراض الديناصورات ,
فتح فاهه , ابتسم ثم ضحك بصوت قوي , كان كالطفل الذي يستكشف الأرض و تتلطخ ثيابه ,
لكنه فرح , و لكنه لم ينس , لم ينس صديقه , لم ينس الجهلاء الذين يجب أن
ينتقم منهم , لم ينس بطبيعته الفطرية كعالم أن يستكشف الأرض التي يقف عليها , و أن
يمشي هنا و هناك , فطاف في أرض لا يعرف لها حدود , لوقت لا يعلم مداه , لكنه بعد
وقت ليس بالقليل رأى طفلين يجريان , و لدى رؤيتهما له تسمرا في مكانهما فكيف يكون
هناك إنسان آخر و الله قد خلق آدم أول واحد على تلك الأرض ...
جريا بعيدا فعرف
أنهم سيطلبان مساعدة أبيهما فلحق بهما بخطى كبيرة سريعة , لحق بهما فلم يختلف
المظهر من الأب و الأم للإبناء , فالكل عاري العود تغطي عوراته ورقات التوت ,
اتخذت العائلة وضعا دفاعيا وسط انبهارها الكبير العظيم بما ترى و تقدم الأب بخطى
واثقة .
ملامحه حادة رجولية
, شعره بني ينساب على ظهره , بشرته قمحية و بنيته ليست بالضعيفة , ثم أطلق كلماته
:
-
أنا آدم , من أنت ؟
-
ميخائيلوفيتش .. آه .. أنا من المستقبل .
-
كيف هذا ؟
-
أنا عالم , إخترعت آلة تمكنني بالسفر عبر
ال..
-
كفى , و ماذا تريد ؟
-
أنا أريد أن أريك العالم ..
إبتعدا قليلا , ثم
جلسا على تبة , لم يعرف ميخائيلوفيتش كيف يكون آدم سريع التكيف , فهو يجلس مع شخص
جاءه من مستقبل بعيد , و مع ذلك يحاوره بثقة ..
-
كيف هو العالم في المستقبل ؟
-
تعيس يا سيدي , أتعرف أن أحد أبنائك سيقتل الآخر
؟
-
كيف هذا ؟! لا يمكن !
-
لا بل يمكن يا سيدي , إن البشرية لن تتوقف عند
ذلك , بل أنها ستتطرف إلى القاع ... سأريك !
-
أريني إذن .
فقاما و طمأن آدم امرأته و ذهب مع ميخائيلوفيتش للآلة و احتوتهما , فذهب به ميخائيلوفيتش إلى القرون
الوسطى الأوروبية ,لم تختلف ملامح الرحلة عما سبقتها ...
انبثقا من العدم
مجددا , كانا بجوار قرية , فمشيا محاولين ألا يراهما إنسان , و ارتفع من القرية
صياح غاضب لرجال و صرخات النساء مدوية , مشيا بجانب الظل كي لا يراهما أحد و رأيا
ما كان يحدث كان، رجال الدين المسيحي يجرّون رجلا و امرأته ليشنقاهما ,كان الرجل يصرخ
و يقاوم , أما المرأة فلا , لم يختلف مظهرهما عن العامة , فالكل متردي المنظر مع إختلاف
النسبة من كل لآخر , كان الرجل يصرخ فيهم " يا جهلة !! إنهم يستغلونك..
" و لا يكاد يكمل جملته حتى يُضرب و يقع أرضا , و يسبه الناس و ينعتونه بأنه
عابد للشيطان خائن للمسيح كما يقول رجال الدين , شنقوا الرجل و امرأته , في النهاية
, و هلل العامة , و أعلن رجال الدين أن هذا سيكون مصير كل المجدفين و أخذ ميخائيلوفيتش معطفا من إحدى النوافذ و رحل آدم و ميخائيلوفيتش , شرح ميخائيلوفيتش لآدم أن العلماء كانوا يعانون من بطش رجال
الدين الذين يعتمدون في بناء مجدهم و ثروتهم و بقاء فسادهم على جهل الناس , إن هذه
لم تكن بالبشاعة المعروفة عن ذاك العصر , فكانوا يحرقونهم أحيانا ... لم يكتف آدم و لا ميخائيلوفيتش أيضا , فذهب
به إلى الحرب العالمية الأولى , و كانا على هوامش أحد ميادين المعارك فرأى آدم أسلحة
ضخمة , نارا مشتعلة , جثثا مشوهة الملامح ,و أشياءً تطير في السماء و تلقي بأشياء
أخرى تثير إنفجارا مدويا يبعثر الأشلاء هنا و هناك ...
و كانا كلما انتقلا
لزمن جديد يحاول ميخائيلوفيتش أن يلبس آدم ثيابا تواكب عصره ..
إرتعد آدم من
المنظر غير مصدق ما يحدث , فطلب ميخائيلوفيتش منه أن يتحلى بالصبر و القوة قليلا ,
فانتقل به لما قبل الحرب العالمية الثانية و خلالها , فأراه الجنود الألمان يلقون
حفنة من البشر على الأرض و يطلقون عليهم النار , و رأى في الحرب آلاتا تنفث النار
فتحرق من أمامها , و رأى مناظرا لا تقل فتكا و رعبا و بشاعة عن الحرب الأولى , و سمع
منه عن قنبلة هيروشيما التي أودعت بحياة الملايين , لم ؟ فقط لتحمي الولايات
المتحدة نفسها ...
ذهب به ليوم حازت
فيه دولة على حرية , فقامت مجموعة في اليوم التالي بإعلان قيام دولتهم على نفس الأرض
, هي فلسطين و قصتها المأساوية ... و حرب قوية دعمت فيها الولايات المتحدة إسرائيل
على فلسطين و شعبها , رأى آدم شيئا ملقى على الأرض بعدما مرت إحدى المظاهرات التي
سرعان ما تحولت لمعركة , فسأل عن ماهيته , فأراه ميخائيلوفيتش كيف يعمل و أن اسمه
المسدس ... رأى آدم الكثير , تألم كثيرا , تألم للبشر , و للأرض , تألم لكل شيء .
انتقلا للعام
السادس عشر بعد الألفية الثانية , فرأى الإلحاد منتشرا و أناسا ظنوا نفسهم آلهة ,
رأى أن كتلا معينة تعيش في راحة بينما أخرى تعيش تحت إمرتها , رأى قارة منهوبة
تسمى أفريقيا , رأى وطنا عربيا يمزق نفسه بنفسه , رأى من يقتلون بإسم الله , يقتلون
الأطفال و الشيوخ و النساء , رأى أيضا ما يسمى بالتقدم التكنولوجي , و رأى شبابا
مدمنين لما يسمى بالأفلام الإباحية و رأى أن كلا صار معزولا عن الآخر ...
-
أريد أن أعود لما كنت ..
-
حسنا , أرأيت أولادك ؟
-
نعم ..
لكن قبل أن يركبوا آلة الزمن كان آدم قد إنفجر و علم أن خطأه قديما أثر على مستقبل بشرية كاملا , فقرر
أن يمحو كل هذا , كان لا يزال لديه المسدس , فأخرجه و صوبه نحو قلبه و أطلق النار ,
انتفض جسده للوراء , و سقط أرضا .
لم يصدق
ميخائيلوفيتش ما يرى , الآن لن و لم يكن هناك آدم فلن تكون هناك بشرية , فسينتهي
كل شئ , حتى أولاده الصغار لن يغيروا شيئا , أن يعيش كما عاش و يمت كما مات , سيصبح
الأمر و كأنه لم يكن ..
أراد أن ينتقم
لصديقه فأباد البشرية دون قصد , كم هو غريب الكائن البشري و شرير ..
آدم انتحر و محى
البشرية كلها ..
آدم أكل من الشجرة
, أما أبنائه فيزرعونها في كل شبر في العالم ..
رؤية: مينا وجدي غطاس
كتابة رائعة و فكر راقٍ لكني ممن يحبون آدم و ما يليق بنا أن نجعله ينتحر فهو أبونا بما له من وقاروقار و لو رمزت للأرض بكوكب آخر و سميت أباهم باسم آخر كان أفضل
ReplyDeleteسامحني يمكن أكون رديكالي شويه
لكن السرد و الفكر و الحبكة رائعة